ترك الإمام الماوردي بصمة كبيرة في مجال التربية والتعليم، مثلما ترك بصماتٍ واضحةٍ في السياسة والفقه والحديث، وغيرها من العلوم التي لا تزال المرجع الأساس لكثير من العلماء، حيث عاش هذا العالم الجليل في فترة كان فيها الاهتمام بالعلم والعلماء كبيرًا، وذلك في ظل استقرار الحياة الاجتماعية والسياسية والإدارية فِي الأمصار.

لقد كان “الماوردي” أحد قادة التراث العربي والإسلامي الَّذِيْنَ قدّموا خِدمات جليلة للإنسانية، من خلال إنجازاته العلمية والتربوية، لذلك ينبغي إزالة مَا عَلِقَ بهذا العالم من غبار، والاستفادة من آرائه وأفكاره التربوية، سيّما التي ذكرها في كتابه المشهور “أدب الدنيا والدين”.

من هو الإمام الماوردي؟

هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، وُلد بالبصرة وتلقى تعليمه بها، ثمّ انتقل إلى بغداد، وواصل تعليمه في دراسة الفقه والحديث وغيرهما من العلوم.

وامتدت حياة الإمام الماوردي من عام مولده سنة 364 هـ حتى مماته سنة 450 هـ وله من العمر ست وثمانون عاما، وبهذا يكون قد عاش خلال الثلث الأخير من القرن الرابع الهجري والنصف الأول من القرن الخامس الهجري، وهي الفترة التي كانت الثقافة الإسلامية في قمة ازدهارها. 

و”الماوردي” علم من أعلام الفكر الإسلامي وأكبر فقهاء الشافعية، يقول عنه تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: إنه كان إمامًا جليلًا له اليد الباسطة في المذهب والتفنن التام في سائر العلوم. 

ويقول عنه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: إنه كان من وجوه الفقهاء الشافعيين، وله تصانيف عدة في أصول الفقه وفروعه وغير ذلك، وتولّى القضاء في بلدان كثيرة وكان ثقة، واشتغل بالتدريس عدة سنين في البصرة وبغداد.

وتلقى “الماوردي” تعليمه على يد شيوخ وأساتذة عديدين، منهم الحسن بن علي بن محمد الجبلي ومحمد بن الفضل البغدادي ومحمد بن المعلى الأزدي وأبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفراييني.

وتذكُر كتب التاريخ أن “الماوردي” تولى القضاء في بلدان كثيرة، ويقول عنه ياقوت إنه كان يلقب بأقضى القضاة، وكان رئيس القضاة في إحدى نواحي نيسابور.

وكان “الماوردي” سياسيّا بارعًا ومفاوضًا مخلصًا، فلقد اختير سفيرا ووسيطا للخليفة القادر بالله “381 هـ-422هـ” لحل المنازعات التي حصلت بينه وبين سلاطين آل بويه وسلجوق.

الفكر التربوي عند الإمام الماوردي

وَلَقَدْ جاءت آراء الإمام الماوردي التربوية شاملة لِكُلِّ جوانب حياة الإنسان ومتكاملة مَعَ مستلزمات الآخرة، وهو ما يحتاجه المجتمع في بناء نظامه وبرامجه التربوية ووضع أسسها وقواعدها، حيث إن النمو الحضاري والنمو الفكري يسيران جنبًا إلى جنب، وما الفكر التربوي إلا نتاج حضارة عريضة، امتدت على مدار أربعة عشر قرنًا من الزمان وقد استمد قوته وحيويته من الدين واستطاع الفكر التربوي الإسلامي، أن ينتج الإنسان الصالح القادر على التکيف مع واقعه، ومن أهم الآراء التربوية عند الماوردي ما يلي:

  • إعداد الإنسان الصالح المتكامل: وهذا هو هدف الأهداف عند الماوردي، ويتم ذلك فِيْ إطار الدين والشرع وعُرف المجتمع لكي يحقق السعادة المنشودة في الدنيا والآخرة.
  • التربية العدلية: ويرى الماوردي ضرورة هذا اللون من التربية في إعداد الإنسان الصالح، وهي تعني تدريب الإنسان على أن يكون عادلًا مع نفسه ومع غيره، ويضم التربية على الشورى، ومبدأ تكافؤ الفرص، وغير ذلك من المبادئ التي تضمن للإنسان والمجتمع ممارسة اجتماعية سليمة.
  • التربية المهنية والكسبية: فلا بد من تدريب الإنسان على مهنة يتكسب منها وتسهم في إحداث الخصب العام في المجتمع، واتساع النفوس في الأحوال، وقلة الحسد والتباغض.
  • الهوى من الأخلاق الذميمة: فالهوى عند الماوردي: “يُنتج من الأخلاق قبائحها، ويظهر من الأفعال فضائحها ويجعل ستر المروءة مهتوکًا، ومدخل الشر مسلوکًا، وقد أمرنا الله تعالى في کتابه الكريم باتباع شرعه، وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم-، والنهي عن اتباع الهوى، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى).
  • التوازن بين الدين والدنيا: فهو يقوم في کتابه أدب الدنيا والدين على هذه القاعدة، ويذکر أن  أعظم الأمور خطرًا وقدرًا، وأعمها نفعًا ورفدًا ما استقام به الدين والدنيا، وانتظم به صلاح الآخرة والأولى، لأن باستقامة الدين تصح العبادة، وبصلاح الدنيا تتم السعادة.
  • أفضل العلوم: بين الماوردي أن أفضل العلوم التي ينبغي للمسلم أن يتعلمها، ولا يسعه الجهل بها، هو علم الدين؛ لأن الناس بمعرفته يرشدون، وبجهله يضلون، إذ لا يصح أداء عبادة جَهَل فاعلُها صفات أدائها، ولم يعلم شروط أجزائها. وهو العلم الواجب على کل مسلم بالغ عاقل أن يتعلمه، فيتعلم ما أوجبه الله عليه وما حرمه الله تعالى عليه، حتى يعبد الله تعالى على علم وبصيرة.
  • أخلاق العلماء: ورأى الماوردي أن أخلاق العلماء الحقيقيين هي التواضع، والعمل بالعلم، وتجنب قول ما لا يفعل، وعدم البخل بتعليم ما يحسنون، وأن يقصدوا وجه الله بتعليم من علموا، ويطلبوا ثوابه بإرشاد من أرشدوا.
  • آداب طالب العلم: وهي تتخلص في التودد والتلطف والتواضع للعالم، وفائدته أن العالم يظهر مكنون علمه لمن تودد إليه، وتواضع المتعلم للعالم بأن لا يأنف أن يتعلم العلم من صغير أو کبير، أو ممن هو دونه في منزلة الدنيا، والاقتداء بالعلماء في علمهم وأخلاقهم حتى يألفها، وينشأ عليها، واحترام العالم وتقديره واحتشامه والحذر من التسلط عليه.
  • التكليف مهم للتربية: فهو يؤکد أهمية التکليف، لأن فيه وعن طريقه يُعَدّ الفرد للدنيا والآخرة، وتتحقق السعادة فيها وتأتي أهمية تربية الإنسان في هذا الإطار، وأهمية تربية العقل، وأهمية التربية على أصول الشرع وأحکامه.
  • مراعاة الفروق الفردية: فهو يرى أهمية ذلك التربية والتوجيه، كما يرى أهمية التشويق والتدرج في طلب العلم.
  • حرية الفكر وترك التقليد: حيث نبّه الماوردي المتعلم- مثلا- على ألا يبالغ في احترام آراء العالم بحيث ينتهي به إلى التقليد.

آثاره العلمية والأدبية

وقد ترك الإمام الماوردي العديد من الكتب بعضها لم يُطبع، وهي تشمل كتبًا دينية وأخرى لغوية وأدبية وثالثة في السياسة والاجتماع والتربية، ومنها:

  1. أدب الدنيا والدين: ويتناول الكتاب الأخلاق والفضائل الدينية مستندًا إلى ما جاء في القرآن والسنة، كما يتناول كثيرًا من الآداب الاجتماعية والأخلاق والتربية، وهو كتاب عظيم الشأن يضم آراءه في تربية النشء وله في ذلك نظرة ثاقبة، وقد طبع مرات عديدة وترجم إلى الإنجليزية.
  2. الحاوي الكبير: وهو موسوعة ضخمة في فقه الشافعية تقع في أكثر من عشرين جزءًا.
  3. الإقناع: وهو مختصر من الحاوي.
  4. أدب القاضي: وهو لم يطبع.
  5. أعلام النبوة: لم يطبع أيضًا.
  6. الأحكام السلطانية: وقد طبع في مصر عدة طبعات، تكلم فيه عن نظم الدولة والقضاء والإمارة والحدود والجزية والحسبة.
  7. قوانين الوزارة وسياسة الملك: وقد طبع في مصر عام 1929 بعنوان “أدب الوزير”.
  8. مختصر علوم القرآن: وثابت نسبة هذا الكتاب بما أورده الماوردي نفسه في مقدمته لكتاب أمثال القرآن، ولم يحظ هذا الكتاب بالإثبات في المصادر التاريخية. 
  9. أمثال القرآن: وقد أفرد هذا الكتاب لأمثال القرآن بالشرح والبيان والإيضاح والتبيين، وتوجد منه نسخة في تركيا وذكره السيوطي واستفاد منه. 
  10. النكت والعيون: وهو التفسير الكبير له، ضمنه أقوال الصحابة والتابعين والمفسرين من قبله، وعرض لما يرجحه منها وأدلى ببعض آرائه في بعض الأحيان، وهو مخطوط مبعثرة أجزاؤه بين مكتبات العالم، نشرته وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت. 
  11. تسهيل النظر وتعجيل الظفر: في أخلاق الملك وسياسة المُلْك.
  12. درر السلوك في سياسة الملوك: أهداه لبهاء الدولة، أبو نصر، أحمد بن عضد الدولة بن بويه، المتوفى 403هـ، وهو كتاب وجيز ضمنه جملًا من السياسة.
  13. الفضائل: مخطوط، يوجد منه نسخة في متحف الأسكوريال شمال العاصمة الإسبانية مدريد.
  14. العيون في اللغة: قال عنه ياقوت الحموي: “رأيته في حجم الإيضاح أو أكبر”.

إنّ من يُطالع الآراء التربوية لدى الإمام الماوردي يجدها نابعة من الکتاب والسنة، ويُمکن تطبيقها في البيت والمدرسة والمجتمع، فهي كلها تأتي في سياق الفکر الإسلامي الصحيح، وتعد طرحًا جيدًا يطل دائمًا على المصادر الأصلية وعلى روح الإسلام، مع الاستفادة من تجارب الآخرين، فهو نموذج جيد لطريقة التناول، ولکثير من الأفکار الرائدة، حيث كان الماوردي عالمًا جليلًا وفقيهًا مجتهدًا ومرشدًا، وملمّا بالعلوم الدينية، والعلوم والآداب الأخرى كالأدب والنحو والشعر والفلسفة وعلم الاجتماع والتربية.

مصادر ومراجع:

  1. محمد منير مرسي: التربية الإسلامية أصولها وتطورها في البلاد العربية، ص 338 و339.
  2. فاضل الكعبي: مفاهيم وآراء الماوردي ومعرفة المعلمين للمتعلمين  
  3. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 13/587.
  4. السبكي: طبقات الشافعية الكبرى: 5/268.
  5. د. علي خليل مصطفى: قراءة تربوية في فكر أبي الحسن البصري الماوردي من خلال كتاب أدب الدنيا والدين، ص 360 و361.
ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة