الدعوة السرية -كما تعارف أهل العلم على تسميتها بذلك الاسم- هي أولي مراحل الدعوة الإسلامية وأهمها وأبعدها أثرًا؛ فقد استمرت فترة طويلة نسبيًا من الوقت –ثلاث سنوات على أرجح الروايات.

الدعوة السرية -كما تعارف أهل العلم على تسميتها بذلك الاسم- هي أولي مراحل الدعوة الإسلامية وأهمها وأبعدها أثرًا؛ فقد استمرت فترة طويلة نسبيًا من الوقت –ثلاث سنوات على أرجح الروايات-، ومثلت بهذا الطول الزمني مرحلة الإعداد الخاص للجيل الأول في الإسلام، المقدر له أن يواجه موجة الاضطهادات الأولى، والتي عادة ما تكون الأشد والأعنف كما هو معروف ومشاهد عبر التاريخ، ووفق ما جرى في سنن الأولين.

هذه المرحلة تعد من المراحل الغامضة لكثير من الدعاة والمصلحين والمربين، فضلًا عن غيرهم من عامة المسلمين، ذلك بسبب ندرة الروايات التاريخية والآثار النبوية التي وردت فيها؛ ما دفع غالبية من تكلم عن السيرة النبوية للمرور عليها بصورة سريعة، وعرضها بصورة موجزة، على الرغم من أهميتها الكبيرة وقيمتها التأسيسية في بناء كيان الدعوة، والأثر التربوي والدعوي الضخم الذي تركته في الأمة الإسلامية، ومعًا سنحاول التعرف على هذه المرحلة، والاستفادة منها قدر الاستطاعة لخدمة القضايا التربوية والدعوية المعاصرة.

موجز تاريخ المرحلة السرية:

نزل الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغار حراء، وأشرقت الأرض بنور ربها، وعادت إرسالات السماء مرة أخرى إلى الأرض التي أظلمت من كثرة الشرك والضلالات، وكان لنزول جبريل -عليه السلام- روعة وفزعة كبيرة في قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لذلك كان من قدر الله تعالى أن يفتر الوحي عدة أشهر ليحصل لقلب النبي -صلى الله عليه وسلم- السكون والطمأنينة، ويحصل له التشوق إلى العود كما يقول ابن حجر -رحمه الله- في تفسير سبب انقطاع الوحي.

عودة الوحي بعد انقطاعه كان إيذانًا بعهد جديد، كله سعي وعمل دؤوب، وجهد متواصل، والاستعداد لمعالي الأمور، فقد حملت الأمر الإلهي الصريح بالبلاغ والاستعداد للنهوض بأعباء أعظم مهمة عرفتها البشرية.

فقد أخرج البخاري في كتاب التفسير، ومسلم في كتاب الإيمان، والترمذي في التفسير، والإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبدالله -رضى الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: "فبينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء الأرض، فجثوت منه رعبًا، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ *  وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) [المدثر1-7].

وهذه الآيات على قصر مقاطعها، وقلة كلماتها، إلا أنها نموذج فريد على إعجاز القرآن البياني، حيث أمرت بالقيام من الفراش وترك التدثر والدفء والراحة والأمان، وذلك لغاية عظمى وهى الإنذار والتبليغ، وذلك بتعظيم الله -عز وجل-؛ تعظيم أوامره ونواهيه وشريعته وإقامة الكبرياء لله وحده، مع الاستعانة على تلك المهمة الجسيمة بتطهير الظاهر والباطن وتزكية النفس من جميع صور الرجز، وعلى رأسها الشرك بصوره الكثيرة، ثم أشارت الآيات لمدخل عظيم من مداخل الشيطان على الدعاة، وهو المنّة فيما قدموا من جهود وعمل لخدمة الدعوة، وإذا كان الله -عز وجل- خاطب رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو المعصوم من الشيطان بترك الامتنان، فكيف الحال بمن هم دونه من الدعاة والمصلحين والمربين؟! وفي ذلك أبلغ واعظ وقاطع لداء العجب، وفى الآية الأخيرة إشارة لطيفة لما سوف يلاقيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه من إيذاء وتكذيب، وذلك قبل وقوعه بعدة سنوات.

ونستطيع أن نقسّم الفترة السرية في حياة الدعوة الإسلامية لمرحلتين: مرحلة ما قبل دار الأرقم بن أبي الأرقم، ومرحلة ما بعد دخول دار الأرقم بن أبي الأرقم.

أولًا: مرحلة ما قبل دخول دار الأرقم:

نزل الأمر السماوي بالبلاغ، فبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بدعوته المقربين منه ومن هم في دائرته الضيقة، وكان من الطبيعي أن يبدأ الرسول بدعوة أهل بيته، وفى هذا مثال على خير بداية لابد لكل داعية أن يبدأ بها، لأننا نرى كثيرًا يهتم بالخارج أكثر من الداخل، ويجعل جل همه دعوة أصدقائه وأصحابه وجيرانه وينسى أهله، زوجته وولده وإخوته وأباه وأماه، والبداية الناجحة في الدعوة لابد أن تنطلق من البيت أولًا. ونستطيع أن نقسم طبقات من آمن بالدعوة خلال تلك الفترة إلى ثلاث طبقات:

الطبقة الأولى:

أهل بيت النبوة: وفيها خديجة وبنات النبي وعلي ابن عمه وزيد مولاه -رضي الله عنهم أجمعين-.

الطبقة الثانية:

أصدقاؤه؛ أبو بكر الصديق وقد أسلم على يديه خمسة من المبشرين بالجنة؛ عثمان بن عفان، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن أبي وقاص، الزبير بن العوام، طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنهم أجمعين-، وكان السبب وراء إسلام هذا العدد على يد أبي بكر الصديق هو منزلة أبي بكر في قريش، فهو رجل محبَّب لأهلها، له علاقاته الواسعة والكثيرة، وكان أنسب أهل قريش وأكثرهم علمًا بالوقائع والأيام، وعلم الأنساب من العلوم الرائجة عند العرب قديمًا لشدة حرصهم عليها، وهذه الخصال والعلوم جعلت لأبي بكر الصديق اتصالاً بكافة شرائح المجتمع المكي، وهذا ظاهر من تفاوت أعمار من أسلم على يديه، وهذا إن دل فإنه يدل على مدى عناية أبي بكر في نشر الدعوة الإسلامية بين كل من يجلس إليه، فإنه لم يأنف من دعوة الغلمان وصغار السن، وهو ما يحتاجه الدعاة الآن لدين الله -عز وجل- الانفتاح على كل شرائح المجتمع.

الطبقة الثالثة:

وفيها أبو عبيدة بن الجراح وأبو سلمة والأرقم بن أبي الأرقم وعثمان بن مظعون وسعيد بن زيد، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عُمَيْس، وخالد بن سعيد بن العاص الأموي، وامرأته أمينة بنت خلف، ثم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص، وحاطب بن الحارث الجمحي، وامرأته فاطمة بنت المُجَلِّل، وأخوه الخطاب بن الحارث، وامرأته فُكَيْهَة بنت يسار، وأخوه معمر ابن الحارث، والمطلب بن أزهر الزهري، وامرأته رملة بنت أبي عوف، ونعيم بن عبد الله بن النحام العدوي، وهؤلاء كلهم قرشيون من بطون وأفخاذ شتى من قريش‏. ومن السابقين الأولين إلى الإسلام من غير قريش‏:‏ عبد الله بن مسعود الهذلي، ومسعود بن ربيعة القاري، وعبد الله بن جحش الأسدي، وأخوه أبو أحمد بن جحش، وبلال بن رباح الحبشي، وصُهَيْب بن سِنان الرومي، وعمار بن ياسر العنسي، وأبوه ياسر، وأمه سمية، وعامر بن فُهيرة، ‏وبلغ عدد من آمن في هذه المرحلة قرابة من أربعين رجلاً وامرأة على أرجح الروايات.

أبرز سمات المرحلة السرية:

1-الانتقائية:

فالخطاب في تلك المرحلة كان خطابًا يحمل سمة الخصوصية والانتقائية والفردية، ويعتمد الاتصال المباشر بين الداعية -رسول الله- ومن يدعوه، ويقوم على دعوة من يثق فيهم ويرتبط معهم بعلاقات وروابط وثيقة، أي دعوة خصوص الناس دون عمومهم، والتركيز حركيًا على الدعوة الفردية دون الجماعية، وهذه الانتقائية جعلت عدد من يدخل في الإسلام في تلك المرحلة قليلًا مقارنة بالجهد المبذول.

2-الحيطة والحذر:

فقد اتسمت حركة المسلمين بدعوتهم بالحيطة والحذر الشديد، وارتفاع الوعي الأمني، حيث يتم التحرك في أطر ضيقة من خلال البيوت والأسر ومجالس الأصدقاء، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على السرية مع الحيطة والحذر، ويشدد على أصحابه في ذلك، ويتضح لنا ذلك في قصة إسلام أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه-، وقد رواها الإمامان البخاري ومسلم، وسياق مسلم طويل ومستفيض، وسياق البخاري أوضح في بيان السرية والحيطة والحذر، وفيه:

"أن أبا ذر أرسل أخاه أنيسًا ليأتيه بخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يستطع أن يجتمع معه، فتجهز للرحيل الى مكة، فأتى المسجد فالتمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنهم، حتى أدركه بعض الليل اضطجع، فرآه علي -رضي الله عنه- فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، ولم يسأل واحد منهما صاحبه حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده الى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أمسى، فعاد الى مضجعه، ومر به علي فقال: أما آن للرجل يعلم منزله، فأقامه فذهب به معه لا يسأل أحد فيهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث فعاد الى مثل ذلك، فأقام معه فقال: ألا تحدثني بالذي أقدمك؟ قال أبو ذر: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لترشدني فعلت، ففعل، فأخبره، قال علي: فإنه حق وإنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا أصبحت فأتبعني، فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك، قمت كأني أريق الماء  –يعنى التبول-، وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فانطلق يقفو حتى دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه". [البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3861].

وفى هذا الحديث يتضح مدى ارتفاع الوعي الأمني عند الصحابة، والإجراءات الدقيقة والتفاصيل الكثيرة التي كانوا يتبعونها مع تبليغ الدعوة. وهذه الحيطة والحذر وسرية الدعوة لم تكن خوفًا وجبنًا كما يظن الجهال وغيرهم ممن تأثر بكلام المستشرقين، بل كانت إعمالًا لمبدأ قرآني عظيم في أخذ الحذر والاستعداد والحفاظ على الكيان في مراحله المبكرة.

3-تجنب الصدامات:

الدعوة كانت في مهدها غضة طرية، قليل أنصارها، ضعيف بناؤها، مازالت تحبو وتحسس خطواتها الأولى، لذلك فمن الحكمة تجنب أي نوع من الصدامات المبكرة التي ستكون إيذانًا بضياع الدعوة وهلاك أنصارها، ولعل ذلك من الحكم العظيمة في بناء الدعوات وإقامة المجتمعات، فالله -عز وجل- لم يشرع للمسلمين الجهاد ضد أعدائهم إلا بعد الهجرة وإقامة الدولة المسلمة.

لذلك كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينظم أصحابه على شكل خلايا صغيرة، وأسر دعوية حتى يتجنب مسألة التجمعات الكبيرة التي تلفت الانتباه وتستفز الجمهور الجاهل بطبيعة وكُنْه هذه التجمعات، وكان الواحد من الصحابة إذا حفظ شيئًا من القرآن تولى أمر رجل أو رجلين أو أهل بيت ما، يعلمهم في حلقات تعليم خاص، فمثلاً كان خباب بن الأرت يعلم سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب.

أيضًا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر من أسلم من أهل مكة بأن يسر بإسلامه، ويأمر من أسلم من غير أهلها أن يلحق بأهله ويعود الى قبيلته حتى تظهر الدعوة ويشتد عودها، كما حدث مع أبي ذر، إذ أمره أن يلحق بقبيلته غفار، وكذلك مع حدث مع عمر بن عبسة إذ قال له النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد إسلامه: "الحق بقومك إذا أخبرت أني قد خرجت فاتبعني". وفي رواية عن مسلم: "إنك لا تستطيع يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس، ولكن ارجع الى أهلك، فإذا أخبرت...". [مسلم – كتاب صلاة مسافرين وقصرها].

واتضح أيضًا مدى حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على الابتعاد عن الصدامات، إنه مع أول صدام وقع بين المسلمين والمشركين وسالت فيه الدماء، أمر الصحابة بالدخول الى دار الأرقم بن أبي الأرقم حرصًا على عدم سفك مزيد من الدماء أو التورط في صراع غير متكافئ في تلك المرحلة يؤذي الدعوة ويضرها أضعاف ما ينفعها.

4-التنظيم الدقيق:

اعتمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السرية كأسلوب مؤقت لصرف أنظار طواغيت قريش الذين اتصفوا بالشدة لكل من يحاول المساس بعقائدهم ومصالحهم، وعقائدهم هي جزء من مصالحهم لأنها وسيلة من وسائل تحققها.

ولضمان نجاح السرية وتحقيق أهدافها المرحلية اعتمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبدأ التنظيم الدقيق وهيكلة الأفراد المنتسبين لكيان الدعوة الوليد، بين ملقين ومستمعين، فقسم الصحابة إلى مجموعات صغيرة تتواصل فيما بينها، على شكل هرمي رأسه الرسول –صلى الله عليه وسلم- ثم أقرب الصحابة منه وأكثرهم اتصالًا به وحفظًا وفهمًا وتلقيًا لتعاليم الوحي المتجددة، وقصة إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تكشف بجلاء طبيعة هذا التنظيم الدقيق والهيكل الهرمي لعمل الدعوة، فهناك عصب رسالي يمتد إلى كل خلية من خلايا الجسد الإسلامي ممثلًا بالدعاة والمبلغين الذين يتحملون مسؤولية تثقيف أبناء الحركة؛ فالسابقون إلى الإسلام والذين تشربوا من الدين الجديد وتعلموا مبادئه، يصبحون فيما بعد معلمين ومربين لمن آمن حديثًا، وهذا النمط التنظيمي يشكل السمة العامة للعلاقة البنائية التي كانت قائمة بين أبناء الكيان الإسلامي الأول. فالرسالة لا تكتفي من الفرد بأن يعلن إسلامه ويقوم بالعبادات فقط، فبالإضافة إلى هذه الواجبات الدينية هناك مسؤوليته كمسلم نحو الكيان الدعوي ورسالته، وهي جزء من مسؤوليته الإسلامية.

نموذج آخر يرسم لنا الصورة التي كانت عليها الجماعة المسلمة والمسئولية الدعوية والتربوية الملقاة على عاتق كل فرد فيها، عندما آمن طليب بن عمير جاء إلى أمه أروى بنت عبد المطلب فقال: قد أسلمت وتبعت محمدًا، فقالت أمه: إن أحق من آزرت وعضدت ابن خالك، والله لو كنا نقدر على ما يقدر عليه الرجال لمنعناه وذدنا عنه، فقلت: يا أم فما يمنعك أن تسلمي وتتبعيه فقد أسلم أخوك حمزة؟! فقالت: انتظر ما يصنع أخواتي ثم أكون إحداهن. وظل يرغبها للإسلام قائلًا: أني أسألك بالله إلا أتيته وسلمت عليه وصدقته وشهدت أن لا الله إلا الله. وأخيرًا قالت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.

ثانيًا: مرحلة ما بعد الدخول إلى دار الأرقم:

أصعب ما تواجهه الحركات البنائية في مراحلها الأولى هو كيفية السيطرة على أبنائها أثناء حضورهم الدائم في البيئة المغايرة. فالفرد هو ابن المجتمع، ومن الصعب تجريده عنه وعزله إلا بقوة ذاتية جبارة تحل في نفسه وتقف بمرور الزمن أمام سطوة البيئة الاجتماعية المخالفة والمعادية في الوقت نفسه.

والإسلام نشأ في المجتمع الجاهلي، وكانت مهمته الأولى هي بناء مجتمع صالح يتحلى بالفضيلة والإيمان، ومصدر هذا البناء هو أفراد هذا المجتمع نفسه، من ثم كان على الفئة المؤمنة البقاء والحركة داخل هذا المجتمع، ليؤثروا في أفراده وبيئتهم، ويحولوا مجتمعهم الجاهلي بالتدريج إلى مجتمع إسلامي نظيف.

لذلك كانت القيادة أمام مسؤوليتين، الأولى تستوجب عزل الطليعة الإسلامية عن المجتمع الجاهلي كيلا تتأثر بسلبياته وانحرافاته، والمسؤولية الثانية هي حث هذه الطليعة للتجذر في أوصال المجتمع والتداخل مع أفراده. وبالتالي كان التفكير في المحضن التربوي والإيماني للتأسيس والتهيئة والاستعداد، لا يغيب عن ذهن صاحب الدعوة -صلى الله عليه وسلم- حتى وقعت الحادثة التي سرّعت من الانتقال إلى دار الأرقم.

فكما قلنا من قبل، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على عدم الدخول في صدامات مبكرة مع المجتمع الجاهلي في قريش، لذلك كان يأمر أصحابه بالاستخفاء أثناء تأدية الشعائر، وكانت الشعيرة الوحيدة في تلك الفترة هي الصلاة، فكان الصحابة يجتمعون في شعاب مكة للصلاة، وحدث ذات يوم أن رآهم مجموعة من المشركين، فدار بين الفريقين حوار انتهى بشجار سالت فيه الدماء، عندما ضرب سعد بن أبي وقاص رأس أحد المشركين بلحي بعير فشجها، وعندها أصدر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أوامره بدخول دار الأرقم بن أبي الأرقم لتكون دارًا للاجتماعات ومحضنًا تربويًا ومدرسة لتعاليم النبوة.

كان اختيار دار الأرقم دليلاً على فطنة وذكاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لموقعها الاستراتيجي على جبل الصفا المطل على الأماكن المهمة في قريش، ومن السهل رؤية تحركات القوم، ولصغر سن الأرقم وقتها -16 سنة- وعدم معرفة قومه بإسلامه، وبالتالي لن يخطر على بال أحد من المتربصين بالدعوة أن يكون مركز قيادة الدعوة في تلك الدار النائية.

في دار الأرقم شهدت البشرية أعظم مدرسة للتعليم والتربية والتأسيس العقدي والإيماني. في دار الأرقم اتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- منهجًا فريدًا في بناء لبنات الأمة الإسلامية الأولى، وهو بناء الأشخاص الذين سيحملون همّ هذه الأمة ويرسون دعائمها.

وقد اتبع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أجل الوصول لتلك المعاني الإيمانية والركائز التربوية منهجًا تربويًا يعتمد على مادة دراسية علمية واحدة وهي مادة القرآن الكريم؛ وحي السماء الذي كان غضًا طريًا على قلوب الصحابة بردًا وسلامًا، وهداية وإرشادًا وتقويمًا وتعليمًا.

لذلك كان تلاميذ مدرسة النبوة الأولى –دار الأرقم– هم أعظم رجال الإسلام، وبناة الأمة وحماتها، وطليعة الصفوف، وصفوة المسلمين وخلاصة المؤمنين. فالقرآن هو المنهج التربوي الصحيح الذي يؤتي ثماره، ويراعي تلبية حاجات القلب والنفس والعقل، ويجيب على تساؤلات البشر الكثيرة، وهو ما لم يكن في أي منهج بشري، ولم يكن إلا في وحي السماء، الذي استخدمه الرسول -صلي الله عليه وسلم- في تربية أصحابه وتهيئتهم لأعظم المهام، وهي مهمة نشر الدعوة ونصرة الدين.

وقد جاء القرآن المكي حاملًا خصائص وسمات تناسب مرحلة التأسيس والتركيز العقدي والتربوي، من أبرزها:

التركيز على التوحيد وعبادة الله وحده، وإثبات أركان العقيدة مثل البعث والجزاء والقيامة، وإثبات الرسالة، ومجادلة المشركين بالبراهين العقلية والآيات الكونية.

كما تميز بوضع الأسس العامة للتشريع والفضائل الأخلاقية، وتنقية المجتمع من الرذائل والنقائص مثل الفواحش ووأد البنات وسائر سيئ العادات.

مع الاستفاضة في أخبار الأمم السابقة، وتحقيق الموعظة والاعتبار بأخبار الأنبياء والمرسلين، ومصير المكذبين وتسلية الرسول -صلى الله عليه وسلم- والفئة المؤمنة بأن العاقبة لهم حتى يصبروا على الأذى الذي سيلاقونه فيما بعد، حتى يطمئنوا على صحة الطريق وحقيقة الانتصار.

من خصائص القرآن المكي أيضًا: قصر الفواصل، مع قوة الألفاظ وإيجاز العبارة، بما يبهر الأسماع ويخلب العقول ويأسر النفوس، ويقيم الحجة على إعجازه البياني في مجتمع يجل ويحترم الفصاحة والبلاغة أيما احترام، والتركيز على وصف الجنة والنار بالتفصيل التام لتحقيق الترغيب والترهيب بصورة إيجابية مؤثرة.

وبعد مرور قرابة العام وزيادة من دخول الرسول والصحابة إلى دار الأرقم، جاء الأمر الإلهي بالجهر بالدعوة، وذلك عندما وصلت الفئة المؤمنة إلى المستوى الإيماني والأخلاقي والعقدي اللائق بالمواجهة العنيفة وموجة الاضطهادات الوحشية التي ستقوم بها قريش ضد الدعوة وأنصارها. وأثمرت التربية النبوية في محضنها التربوي الأول أعظم ثمراتها؛ التضحية والفداء والصبر والشجاعة واليقين والثبات الذي كان مثار إعجاب الأعداء قبل غيرهم، بل كان سببًا في إسلام بعضهم. وهكذا تفعل التربية الصالحة والإيمان الصادق والعطاء الخالص في قلوب الناس حتى ولو كانوا أعداءهم وجلاديهم!!

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة