في صيف عام 1993، نشرت مجلة (الشؤون الخارجية) Foreign Affairs الأمريكية أطروحة المنظِّر والفيلسوف الأمريكي صمويل هنتجتون التشاؤمية حول اصطدام الحضارات، والتي جاءت ردًّا على أطروحة المنظِّر والفيلسوف الأمريكي-الياباني فرانسيس فوكوياما في العام السابق .

في صيف عام 1993، نشرت مجلة (الشؤون الخارجية) Foreign Affairs الأمريكية أطروحة المنظِّر والفيلسوف الأمريكي صمويل هنتجتون التشاؤمية حول اصطدام الحضارات، والتي جاءت ردًّا على أطروحة المنظِّر والفيلسوف الأمريكي-الياباني فرانسيس فوكوياما في العام السابق حول (نهاية التاريخ والإنسان الأخير). وفقًا لما قاله محررو الصحيفة، فإن مقال هنتنجتون قد أثار نقاشًا طيلة ثلاث سنوات أكثر من أي مقال قاموا بنشره منذ الأربعينيات.

وبعد ثلاث سنوات من الجدل والمناقشات، عزز هنتنجتون نظريته في كتابه الضخم الذي أصدره عام 1996 بعنوان (اصطدام الحضارات وإعادة بناء النظام الدولي).

مما لفت نظري -بعيدًا عن ماهية النظرية وفلسفتها- هو قول هنتجتون في كتابه المذكور: "وللفلسفة التي تتبصر في مصير العالم نظرة مثيرة للاشمئزاز إلى العصر الجديد، أجاد في التعبير عنها مايكل ديبدن [1947 - 2007] في روايته (البحيرة الميتة) Dead Lagoon، حين يقول: (لا يمكن أن يكون ثمة أصدقاء حقيقيون، من دون أعداء حقيقيين. فما لم نكره غيرنا لا يمكن أن نحب أنفسنا)".

لم يكن هنتجتون الوحيد الذي بنى فلسفته ورأيه استشهادًا بنَص أدبي، بل إنه أمر معهود في عُرف الفلاسفة والمنظِّرين المعاصرين بشكل عام. هذا الأمر له دلالة؛ وهي أن الرواية أو الأدب ليس مجرد ضربٍ من الرفاهية، أو بابٍ من أبواب التسلية، أو حتى الثقافة المصطنعة كما هو الحال عند الكثير من شبابنا، بل هو أداة ووسيلة أساسية لتشكيل الفكر وصناعة الوعي الشعبي.

فالأدب -كما يعرفه البعض- هو "تعبير فني عن موقف إنساني أو تجربة إنسانية ينقلها الأديب ويبغي من ورائها المتعة والفائدة ".

والعلاقة بين الأديب ومجتمعه -كما يراها الأستاذ محمود أسد- هي "علاقة توجيهية قياديّة نظرا لما يملكه [الأديب] من صفات وإمكانات تؤهِّله على تحمُّل المسؤولية، ولذلك يُطلَب منه أن يكون أكثر التحامًا بقضايا مجتمعه وهو الذي يملك وسيلة مؤثرة، فكل شيء يمكن أن يزول إلا أثر الكلمة". [1]

لكن هذه العلاقة بين الأديب والمجتمع -كما تذكر الدكتورة سناء أبو شرار- "تستلزم عناصر أساسية؛ وهي الفهم العميق لثقافة المجتمع، الاطلاع العلمي على كل ما يحد به من تغيرات، عدم فرض الكاتب لرأيه عما يكتب إلا إذا كان يمتلك الثقافة الواسعة والمعرفة العلمية والاجتماعية كي يسمح لنفسه بعرض المشكلة ومن ثم إيجاد الحلول لها؛ وهي مسؤولية كبيرة لأن الكاتب من أحد أهم العوامل المؤثرة في المجتمع ويتعمق هذا التأثير حتى يكتب عن المرأة، لأن المرأة تبدو أكثر تأثرًا بالأدب من الرجل، لأن الأدب يحاكي مشاعرها وأفكاره خصوصًا حين يكون الكتاب يتحدث عن معاناة مشابهة لمعاناتها أو آمالها.

لطالما أثر الأدب بالمجتمع، بل لطالما منح حلول لمشاكل معقدة خصوصًا فيما يتعلق بالمرأة. أما فيما يتعلق بالمجتمع ككل؛ فالعديد من الروايات العالمية غيرت مجرى الحياة السياسية لدولة ما، أو ألقت الضوء على معاناة اجتماعية تم تجاهلها، ومن هنا تبدأ أهمية مسؤولية الكاتب تجاه المجتمع بجميع فئاته". [2]

لعلنا نبرهن على ذلك ونضرب مثالا صريحًا بالأديب والفيلسوف الإيطالي أومبرتو إكو؛ ففي حوار له مع الكاتبة الفرنسية-الإيرانية لِيلا أزام زانجانيه، سئل عن معنى عبارته المشهورة: "الأشياء التي نعجز عن التنظير لها، يجب أن نسردها في رواية"، فأجاب: "أظنني عبّرتُ عن أفكاري بشكل أوضح في رواية (بندول فوكو) أكثر مما فعلته في مقالاتي الأكاديمية. كل فكرةٍ مهما بدت أصيلة، تأكد بأن أرسطو توصل لها قبلك. لكن كتابة رواية حول تلك الفكرة ستجعلها تبدو أصيلة ومبتكرة".

يتبين لنا من هذا المثال إلى أي مدى تتفوق الرواية على المقالات الأكاديمية الجامدة في قدرتها على الإيصال والتوجيه، ولو لم يكن للقصة أهمية غير التسلية لما زخر القرآن الكريم بالأمثلة الجميلة التي تقرب المعنى إلى تاليه، بل وإلا ما خص الله تعالى (القصة) بالذكر في بعض المواطن منها قوله سبحانه وتعالى: (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120].

ولقد سُئل توفيق الحكيم لماذا تكتب؟ فكان جوابه: " لأن الفنان لا بد وأن يكون له وجهة نظر في الحياة وفي الناس وفي الأفكار. الفنان ليس مجّرد متفرّج. إنه متفرج وصانع لمجتمعه في وقت واحد ".

إن واقع الشباب وميوله واهتماماته يفرض على أصحاب الفكر ومنهج الإصلاح بذل اهتمام زائد وإعطاء أولوية للإعلام ووسائله بشكل عام، وللرواية بشكل خاص.. يفرض عليهم الحاجة لمزاحمة ركام هائل من (اللاشيء) المسمى تدليسًا بالثقافة، بأسلوب إبداعي واحترافي وعصري يجد استحسان الشباب العصري. بات ضروريًّا اقتحام هذه الساحة التي يرتع فيها كل مفسد ويبث عبرها سمومه كيف شاء، مستغلًّا إمكاناته وخبراته المادية والنفسية والاجتماعية، بروايات وأعمال ومشاريع تخاطب نفس الفئات والشرائح العمرية والاجتماعية المستهدفة، بأفكارها وإشكالياتها وتحدياتها الجديدة شديدة التعقيد والرمادية. لا مفر من الخروج عن النمط التقليدي الذي يسبق إليه الذهن؛ أعني دائرة الوعظ المباشر وسرد القصص التاريخي التقليدي، لا بد من إعادة قولبة هذه الإرث الأصيل، وعرضه للعميل العصري بشكل إبداعي ملائم، بغير إخلال بالثوابت الشرعية. فواهمٌ مَن يظن أن سر نجاح الروايات هو مجرد توليفة العنف والجنس الرائجة في أوساط الشباب المسلم التائه لمجرد أنها تداعب الجانب المظلم في داخل كل واحد منَّا وتلبي رغباته المكبوتة. الأمر ليس كذلك، وأضرب لك مثالًا؛ فرواية (قضية دكتور جيكل ومستر هايد)، هي رواية خيالية شهيرة للأديب الإسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون، نُشرت لأول مرة في لندن عام 1886 وتتناول الصراع بين الخير والشر داخل الإنسان. اهتم بها علماء النفس، ولاقت نجاحًا فوريًّا بعد صدورها، وقرأتها الملكة فكتوريا نفسها، ووصل صداها إلى مختلف دول العالم، وما زالت تلقى قبول واستحسان القراء، حتى إن عبارة (جيكل وهايد) أصبحت جزءًا من اللغة الإنجليزية ويراد بها وصف الشخصيات ذات التباين الأخلاقي الكبير.

هذه الرواية على قدر جمالها وقيمتها الأدبية لا تحتوي على شخصية نسائية واحدة، سوى خادمة المنزل العجوز الشمطاء، والتي ذُكرت في مشهد واحد من الرواية. قارن ذلك بعوامل نجاح روايات اليوم، وفقًا لقاعدة (الجنس يبيع) Sex Sells.

ورغم أن هذا لم يمنع وجود إشكالية عقائدية خطيرة في الرواية، مثل وصفها لقانون الخير والشر بـ "القانون الجائر للحياة، ذلك الكامن في جذر الدين، وهو واحد من أغزر ينابيع التعاسة"، لكنه أمر وارد طالما أنَّ الرواية تنطلق من منطلق غير إسلامي بالأساس، والمثال هنا فقط لبيان أن توليفة (العنف والجنس) المنتشرة حاليًا ليست هي توليفة النجاح التي يجب الاستسهال والنسج على منوالها، فهناك عوامل جذب أرقى وأعلى قيمة وأثرًا من ذلك.

هناك صدع ضارب بقوة بين جيل الأدباء الشباب والكبار من جانب، وبين الشباب بشكل عام والمصلحين من جانب آخر؛ "والأدباء الشباب لا تختلفُ الآراء حول أهميتهم ودورهم الأساسي لحمل عبء من سبقهم ومتابعة الدرب برؤية واقعية تفاؤلية متسلِّحة بالحفاظ على القيم والمثل، متمسكين بتراثهم دون تناسي معاصرتِهم ومتطلباتهم. فعليهم أن يجدِّدوا ما شاء لهم التجديد، ولكن داخل إطار الإتقان والقواعد والتجويد والمعقولية وحسن النية بالدرجة الأولى. بعيدين عن الاستخفاف والابتذال والاستهتار، وهذه الأمور لا تتحّق إلا بتعميق الصلة والعلاقة بين الأجيال وزرع الاحترام المتبادل". [3]

أما فيما يتعلق بالشباب بشكل عام والمصلحين؛ فلو لم يبذل المخلصون الجهد الإبداعي -سعيًا للوصول إلى الشباب واهتماماته، بأساليب علمية وإستراتيجيات وتخطيط كما يفعل الغرب-؛ فسيظل الصدع في اتساع، وستظل الجُزر في الابتعاد، حتى يزداد اليَمُّ الفاصل بينهما عمقًا وتقلبًا وضرواة، فهل من مبحر حاذق يخوض اليَمَّ قبل أن تحول بينهما الأمواج؟

 

[1] محمود أسد، الأدب وعلاقته بالمجتمع، شبكة النبأ المعلوماتية، 14/2/2015

[2] د. سناء أبو شرار: تأثير الأدب على المجتمع والمرأة، موقع عمون الإخباري، الأردن، 17/5/2015

[3] محمود أسد، الأدب وعلاقته بالمجتمع، شبكة النبأ المعلوماتية، 14/2/2015

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة