مدخل:

تَعرَّض دور الزوجة والأم خاصة للكثير من التحدّيات والهجمات، أشهرها ارتباطه بأزمة هُويّة المرأة وتحقيق ذاتها. فمتطلبات التماهي والذوبان التي يفرضها الدور الزوجي والأمومي على المرأة تَقبُرها في بيتها وتجور على حقّ نفسها: كذا يُقال. ويتفرّع عن ذلك المأخذ تهميش قدر ربّة المنزل والتهوين من عظم دورها، في مقابل تعظيم قدر ربّة الوظيفة وتهويل دورها المجتمعي!

ومع أن مشكلة تحقيق الذات تعاني منها النساء في مختلف الأعمار والثقافات، بل والرجال أيضًا، إلا أنها صارت بأثر مستوردات النسوية لصيقة إما بنموذج الأمّ، نظرًا لعداوة النسوية للتصور الأسري وطبيعة دور المرأة فيه، أو لصيقة بمبدأ القرار في البيت الذي يكبّل صاحبته ويستعبدها ويحدّ من آفاقها! والحق أن كل هذه الآفات مرهونة بتكوين الشخصية وتربيتها وتعاملها مع موارد بيئتها وتفاعلها مع سياقات حياتها، لا بربابة الأسرة ورعاية الأطفال، ولا بجدران البيت أو أرضية الشارع أو حوائط المكتب بحد ذاتها!

معنى وأهمية ربابة البيت:

إذا تأملنا طرَفًا مما جاء في تعريف لفظة «ربّ» في معجم «لسان العرب» وجدنا: «رَبَّ الولدَ رَبًّا: أحسنَ القيام عليه، ووَليه حتى يُفارق الطفولية، وتعهّده بما يغذيّه وينمّيه ويؤدّبه… والرَّب يُطلق فِي اللغة على المالك، والسيد، والمدبّر، والمربّي، والقيّم، والمُنعم …»[1].

التأمل في هذا التعريف بإمعان كفيل بدحض كثير من الشوائب العالقة بتصّور ربابة المرأة لبيتها، سواء تلك التي تهوّن من عظيم دورها وتقولبه في مجرد الطبخ والتنظيف -وهما من المطالب المعيشية اللازمة للحياة السَّوِيَّة لكل إنسان بالمناسبة- أو تلك التي تهوّله ليصير مرادفًا للتمحور حول شؤون البيت وأهله، والاحتراق الذاتي في سبيل إضاءة شموعهم! والحق أنّ ربابة البيت تتطلب ربّةً تحسن التدبير والولاية، وتجمع بين حزم التقويم ورفق الرعاية، ولا يتحقق هذا فيمن لا تكون كفؤًا في نفسها بداية. فهو دور ذو خَطَر لا تنهض به إلا ذاتُ قَدْر، فتأمل واعتبر!

وللشاعر حافظ إبراهيم قصدية بديعة، اشتُهر منها بيت:

الأم مدرسـة إذا أعـددتـها ** أعددت شعبًا طيب الأعـراق

وهذه القصيدة مطلعها:

مَن لي بتربية النساء فإنـها ** في الشرق عِلَّة ذلك الإخفاق!

فالمرأة مناط عظيم من مناطات النجاح أو الإخفاق المؤثر في صَرْح أيّة أمّة، لأنها لَبِنة البناء الأَوَّلي، وفي يدها مجامع الأسرة التي هي نواة المجتمع الأولى. وإعداد المرأة إعدادًا جيدًا هو حقًّا إعداد لجيل كامل، وليس لفرد أو بضعة أفراد: فالأم «أستاذة الأساتذة الأولى» كما في القصيدة! ومع ذلك كم من أمّ وقَّعت ضمنيًّا على تاريخ انتهاء صلاحيتها منذ أنجبت! فانحصرت عندها آفاق الأمومة -التي تغنّى بذكرها الركبان وحفظ حقها الرحمن- في الخدمة والزعيق والعويل مع العيال. ورغم حضورها الفيزيائي وتلبيتها للحاجات الأساسية للبقاء، إلا أن حضورها روحًا وقدوة وتربية وتهذيبًا وصياغة للنفوس يكاد يكون منعدمًا، مع أنَّ هذه كذلك حاجاتٌ أساسيةٌ للحياة السَّوية.


المرأة مناطٌ عظيمٌ من مناطات النجاح أو الإخفاق المؤثِّر في صرح أيّة أمّة، لأنها لَبِنة البناء الأوَّلي، وفي يدها مجامع الأسرة التي هي نواة المجتمع الأولى. وإعداد المرأة إعدادًا جيدًا هو حقًّا إعداد لجيل كامل

المقصود بتحقيق الذات:

التصوّر السائد لمفهوم تحقيق الذات يعني الحضور في مواضع وأدوار حياتية، تُعَرِّف لصاحبها قيمة ذاته ومعنى وجوده. وبالتالي يتعلق تعريف القيمة والمعنى عند الفرد بما تُسبغه عليه أدوار وأحوال معينة، لا بما يضيفه هو من نفسه لها، مثل: مستوى اجتماعي، أملاك شخصية، وظيفة مرموقة، زيجة حسنة… إلخ.

ولو طالعنا معاني لفظة «تحقيق» في أيِّ معجمٍ لوجدنا فيها: إثبات الهُويّة، التنفيذ العملي، الإحقاق. إذن: تحقيق شيء ما، أي تنفيذه أو إثباته أو إخراجه لحيز الوجود، يستلزم اكتمال تشكّله الأوّلي على الأقل في نفسه، كتصوّر تصميم بناء هندسي في الذهن ورسمه متكاملاً على الورق قبل الشروع في وضع أساسه على الأرض. وبالمثل، يتطلب تحقيق الذات قَدْرًا من التحقق في الذات، أي امتلاءها في نفسها بداية، وعمرانها أولاً بما يصلحها وينفعها ويؤصِّلها لتكون قادرة على الإعمار تَبَعًا. وهذا التشكّل الأوّلي في بنية الذات يُفترض أن يتم بالتنشئة السوية في الصِّغَر من قِبَل الوالدين والمربين، ثم تبني عليه بتربية المرء لنفسه وعُمرانه لذاته حين يبلغ سنّ الوعي بها والمسؤولية عنها.

بناء عليه، فالحيّ هو من يسبغ من حياته ومعاني حياته على الجامد لا العكس! وتحقيق الذات عملية «تفاعلية»، تضيف فيها الذاتُ معنى لأدوارها في الوجود كما تَستمِدُّ منها قيمتها، لا أنها تستميت على استمداد المعنى والقيمة من خارجها لخوائها في داخلها منهما معًا، فتصير كإناء خاوٍ يريد أن ينضح بما ليس فيه! لذلك لن يَعمُر الذات حقًا -ناهيك أن يحققها- مجرد الجري اللاهث وراء الأعراف الصمّاء والارتماء الأعمى في قوالب المسارات الحياتية المعروضة، لا لشيء إلا لأنها السائد والشائع!

ومثال التحقق قبل التحقيق أو العُمران قبل الإعمار: العمل الوظيفي هو في الأساس وسيلة لكسب الرزق الحلال واستجلاب المال الذي به تتحقق مصالح ومنافع، وهذه الغاية تصدق على كل البشر. لذلك ليس الاشتغال المهني بحدّ ذاته ما يحقق الذات، بل غاية ما يمكن أن يقدّمه للذات بعد كفايتها المادّية هو صقلها وتطويرها المعنوي، بناء على ما تَعْمُر به أوّلاً، وما تبذله من جهد تفاعلي ثانيًا في ذلك الصقل والتطوّر. فلا الوظائف ولا الأدوار الحياتية ولا مرور الوقت بحد ذاتها تحقق ذوات أصحابها، وإنما يحقق الفرد ذاته فيها وأثناءها بحسب: فهمه لنفسه، وعمرانه لها، وبذله منها، وتفكّره فيها، ومراجعته إيّاها.

وصحيح أن السياقات المُعيّنة والظروف المحيطة والوسائل المتاحة كلها من العوامل المؤثرة على بِنيَة الشخصيّة لا ريب؛ لكنّ شخص وروح الفرد نفسه بما تَحمِل من تصورات وما تَعمُر به من أصول هي كذلك عامل مؤثر، بل هي العامل المؤثر المنوط بتوجيه باقي المؤثرات في صالحه أو ضدّه. تأمّل مثالاً بسيطًا في تفاعل الإنسان مع النار: تأثره بلسع النار هو الذي دفعه لمحاولة مجابهة ذلك التأثير المؤلم، بتطويع أدوات ووسائل أتاحت له توجيه الأثر في صالحه، وكان يمكن أن يكتفي بالهرب من أثرها المُوجِع في كلّ مواجهة، فهي لن تتغير في طبيعتها وهو لن يتغيّر بدوره في الفرار منها. لكنّ الله أنعم على الإنسان بطاقة التكيّف والتطويع ضمن طاقات تهيئته لمهمّته في الوجود. وعلى بداهة ردة الفعل هذه في التعامل مع مؤثرات الطبيعة، لا يخطر لنا تطبيق نفس ردّة الفعل على مؤثرات سياقات الحياة التي نخوضها ونطاقات العمل التي تعنينا. فلا تخلو بيئة من تحدّيات ولا يُكتَب لسياقٍ الكمال، لكن ما لم يبدأ الفرد بمواجهة نفسه أولاً بالتربية والتدريب والتقويم والتهيئة… إلخ فهو عن مواجهة ظروفه أعجز.

هل تجور ربابة البيت على تحقيق الذات؟

لعله يتضح الآن كيف أن الصراع المتوهّم بين حقوق الأسرة وتحقيق الذات منشؤه الجهل بحقيقة كليهما ابتداء، وإهمال للنظر الجاد في الموازنة بينهما انتهاء. فإذا كان فاقد الشيء لا يعطيه، فإن فاقد روحه ونفسه في أيّة علاقة لا يمكن أن يقدر على الإسهام الفعّال فيها. والفهم الناضج للذات والتعامل الجاد مع مسؤولية عمران النفس يبدآن من سنّ التكليف ويُغرَسان قَبله. فمن تهمل نفسها طوال سنوات عمرها وهي لا تتحمل إلا مسؤولية نفسها، لن تنقلب موازينها فجأة لتصير قادرة على تحمّل أمر نفسها وغيرها معها! وحينها تبدأ دوامةَ لومِ مَن حولها بدعوى تعطيلها عن تحقيق ذاتٍ لم تكن مَحَلّ عنايتها من البداية؟! وما نعايشه اليوم من محاولات إصلاحية مستميتة لما فسد مجتمعيًّا مبدؤه فساد تربية الأمهات بسبب الإهمال الذي لِحَقَ الأمّ نفسها منذ كانت ابنة، فاتبعت ما رأت أمها عليه من الخدمة والتنظيف وتلبية حاجات المعيشة، ولم تلتفت لتهذيب نفسها روحًا وفكرًا وعلمًا وعملاً، وبالتالي: كيف يفيض إناء خاوٍ بما ليس فيه حين يحين دوره؟!

وهكذا من مجموع الجهل والإهمال، مضافًا لهما آفات التخاذل والكسل واستسهال اتّباع السائد وخشية مواجهة النفس… يصير عطاء المرأة في بيتها عذابًا للمُعطي والآخِذ على السواء! وتنهار جودته النوعية ليتحول لروتين إتمام المهام والسلام، والمَنِّ على أهل البيت بالانقطاع لهم والجَوْر على النفس في سبيلهم، مع أنّ البيت يمكن أن يقوم بغير هذا الانقطاع وذلك الجَوْر على الحقيقة، وبغير المَنّ الذي يُحبِط جوهر العطاء ويثير البغضاء والشحناء بين الأطراف.

وهذا التفاني الحادّ المذموم هو أثر ثقافة موروثة جعلت أيقونة الزوجية والأمومة خِصِّيصًا لصيقة بأيقونة التضحية المطلقة والفناء الشمولي! فالمهم أن تَفْنَى المرأة في الأسرة لتثبت أمومتها وزوجيّتها، بغضّ النظر عن نوعية فنائها ومدى انعكاسه في إحسان أدائها الزوجي والتربوي، أو صلاحًا في الجو الأسري وتحقيق السَّكِينة السَّكَنيّة.

بل إن الدور الزوجي والأمومي صارا يُتَّخَذان حجة لتبرير ساقية نَفْسِيِّة وحلقة مفرغة من الخواء الداخلي والهشاشة الذاتية، تدور فيها صاحبتها دورانًا تامًا، لأنها ببساطة لا تدري ما تفعل بنفسها إن لم تكن متفانية في غيرها! فهذا سياق جاهــز ترتمي فيه ارتماء أعمى، فتستمد منه قيمة على الأقل في نظر المعارف وكلام الناس وحكم المجتمع، ولو كان واقع بيتها وأدائها يشي بغير ذلك!


والزوجة أو الأم التي لم تنشأ على ثقافة «إن لنفسك عليك حقًا» و«أعطِ كل ذي حق حقه» من البداية، ستجد دراما «تفانيها» الزوجي وفوضى «عطائها» الأمومي ليسا في غالبهما إلا ردَّ فعل حادِّ لتقصيرها المذموم في العناية بذاتها وتهذيبها وعمرانها في سابق أيام فراغها، فكأنها تُفرِّغ في أهل بيتها شحنتها الموجّهة لنفسها بالأساس! ودليل ذلك أنّ كثيرًا ممّا تهمله الزوجة أو الأم في حق نفسها هو من الواجبات المتعيّنة عليها شرعًا، أقلها الصلاة على وقتها والتي كثيرًا ما تضيع في زحمة الانشغال بالبيت والأبناء، بزعمها. وتجدها تهمل كذلك الحفاظ على الأوراد التي هي ركن من أركان حفظ النفس وصَونِ استقرارها. وكثير من ذلك الإهمال تعتاده الزوجة من حيث كونها زوجة، ولو كانت خالية لنفسها في غياب زوجها وفارغة من الأشغال المنزليّة غالب اليوم. وتعتاده الأم من حيث كونها أمًّا من الهندام الحسن والمظهر المقبول، ولو كان أبناؤها قد رَشَدوا واستغنوا عن دوام خدمتها ودقيق حضورها!


أسطورة الكارير:

تأتي الظاهرة المضادّة لظاهرة «التفاني المنزلي»، وهي استماتة المرأة على العمل خارجه في وظيفة ما لإثبات جدارتها في الحياة، وحيازة الاحترام لجهودها تعويضًا عما لا تحوزه من تقدير في المنزل، أو زيادة على ما تحوزه. فحسب ما يزينه دعاة تحرير المرأة والنسوية: ربّة الوظيفة أو بتعبير اليوم: الأم العاملة أو الموظفة، هي التي تجمع الحُسْنَيين: الأمومة والمهنيّة، وأنها الأعلى كفاءة والأحسن تحقيقًا لذاتها من المقتصرة على الدور الأمومي (ومن عجب أنّ المقتصرة على الدور الوظيفي دون الأمومي لا تَلقَى نفس المَذمَّة، بل تُقابَل بتَرحاب وتقدير مماثلَيْن لشقيقتها الأم الموظّفة، فتأمل!) ومن اللافت في هذا المقام أن الهيلمان المعنوي لما يُعرف بـ «الكارير» أو «التاريخ المِهني» وارتباطه الوثيق بهدف تحقيق الذات اكتسح الوسط النسائي اكتساحًا لم يشهد له نظيرًا بين الرجال أصحاب «الكارير» بالفعل منذ بدء الخليقة وأول الراغبين في التحرر من استعباده! ذلك أن تصور الكارير في أصله يربط معيار النجاح بمدى القدرة على توليد المال وكمّ المال المتولّد لا محض الإنتاجية. ولذلك تجد الترقي المهني لا يكاد يعني للرجل شيئًا إذا لم يرتبط بزيادة الدخل والمميزات المادية. أما تصور الكارير النسوي فيجعل مجرد اشتغال المرأة بوظيفة تخرجها من بيتها بدل القعود فيه، وتشغلها بأية مشغلة في الحياة سوى البيت والأولاد، وتدفع لها عائدًا ماديًّا مهما قلّ؛ يجعل من كل ذلك معادلة تحقيق الذات المنشودة لها! فتأمل تضارب الأجندات النسوية بين هدف تعزيز تحقيق المرأة لذاتها وتطبيقاتها التي تخسف موازين تقديرها لذاتها!

وهكذا تجد من أكرمها الله فأورقت وأينعت وتميزت في نفسها، لكنها لا تعطي أبناءها وأسرتها حظًّا من تميزها، بل جُلُّ أو كلُّ عطائها في الخارج. والأدهى أن ترى في حق أسرتها عليها ونصيبها منها استنزافًا لطاقاتها أو افتئاتًا على حقوقها وحرياتها! كيف وهم قطعة منها وهي منهم؟ وما بالها تجتهد كل الجهد للبذل فيمن شاب على ما شب عليه، من لا يعود إليها نفعهم ولا صلاحهم مباشرة، وتزهد فيمن بين يديها وهبهم الله لها بذورًا غَضَّة تغرسها من جذورها على ما تحب. سبحان الله! تَستَعذِبُ الماء من ماعون غيرك، أما ماعونك الصافي فهو مِلح أُجاج؟! ثم أي عطاء ذلك الذي يجعل أمًّا تعهد بحضانة أطفالها لغيرها في أخصب سنيِّ عمرهم وأحوجها للاهتمام وأسرعها للتأثر؟ هذا وايمُ الله ليس عطاء على الحقيقة في ميزان الله تعالى، بل هي أنانية مذمومة، وتهافت على سُمعة زائفة، وطلب لحظوظ نفس في غير موضعها ولا أوانها، كل ذلك متستر تحت الشعارات الرنانة لتحقيق الذات واستغلال المواهب.


ومهما قالت الأمّ الموظّفة إنها توفر لأسرتها من نفسها وقتًا، سواء في الأمسيات أو أيام الإجازات، فالأصل -كما ينبغي- هو الإنفاق من نفسها عليهم، وما يفيض توفره للخارج لا العكس. إذ لا يمكن أن يستوي في الأثر مَن تُفرّغ نفسها لمن هم قطعة من نفسها، ومن تعطيهم فضول أوقاتها، ثم تشكو بحلول سنيّ المراهقة لأبنائها أنهم جُزرٌ منعزلة لا تعرف كيف تصل إليهم، وأنهم يتمرَّدون عليها أو لا يستمعون لها، وما ذلك إلا لأنَّ وقتَ الوصالِ الحقيقي لم يُعطَ حقه من الاهتمام، والغرسُ القيميّ والعقدي والمفاهيمي لم يُغرَس على وجهه المتين حين كانت التربة مُهيَّأة. فهل يلام الطفل الجائع حين يدخل أي شيء في فمه إذا كانت أمه عن إطعامه منشغلة؟! وصناعة الكيان المسلم في عصرنا اليوم بتحدياته، يتطلب أمومةً ذات أبعادٍ وآفاق وطاقات قادرة على صناعة أمّة. والواحدة من أولئك اللواتي يبنين من الداخل هي بألف ممّن يبنين في الخارج.

هذا والمميزات التي يعرضها المؤيدون للجمع بين الأمومة والوظيفيّة تدندن حول أربع فوائد رئيسية:

  1. تحقيق الاستقلال المالي للمرأة.
  2. تقديم نموذج ملهم لأطفالها.
  3. تحصيل احترام زوجها ومجتمعها.
  4. النجاة من براثن الملل المنزلي ورتابة الروتين الأسري.

وبالتأمل في تلك المميزات، تجد أنها يمكن أن تتأتّى من عدّة سُبُل أخرى، وليست الوظيفة هي ما تخلقها. وإلا فآلاف الموظّفين حول العالم لا يحققون مما ذُكِر شيئًا، سواء كان لهم أولاد أو لا! وإن ما يزكّي الشخص حقًا –امرأة كان أم رجلاً– هو يقظته لشأن نفسه بحرصه على تعهد روحه وفكره وآفاقه، وتجديد إنتاجه ومراجعة أهدافه ونواياه فيما يعمل أو يترك. فليس البيت بعينه سبب صدأ الفكر، ولا المكتب الوظيفي هو عنوان تألقه! وإنما الشأن كل الشأن في ذات المرأة نفسها: كيف تتعامل مع السياق الذي هي فيه والدور الموكّلة به؟ فخروج المرأة –مثلاً- لوظيفة ما كل يوم لا يعني بالضرورة أنها تتطور أو تتهذب أو «تحقق ذاتها» بالتعبير العصري، بل لعله يكون مقبرة من الروتين المملّ المتكرر دون أي أثر نافع على جوانب نفسها، تمامًا مثل مقبرة البيت إذا كانت صاحبته بنفس النهج الآليّ الخاوي.

نماذج غربية في إدراك دور المرأة الحقيقي:

من النماذج الغربية التي استوعبت تلك الفوارق: آن ماري سلوتر Anne-Marie Slaughter، وهي محامية ومحللة سياسية وأول امرأة تعمل مديرة للتخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية، قبل أن تستقيل للتفرغ لرعاية بيتها وتدارك ما فات من تربية أولادها. ولمّا طاردتها النسويات باللوم والشجب على تلك الحركة الرجعية، أجابتهن إجابة جاء فيها: «حان الوقت لنتوقف عن خداع أنفسنا. لا تستطيع النساء الحصول على كل شيء». وقدّمت كلمة مرئية منشورة على الإنترنت بعنوان: «هل بإمكاننا جميعًا أن نحصل على كل شيء؟ Can We All Have It All?»، ونشرت مقالة في مجلة The Atlantic بعنوان: «لماذا تظلُّ النساء غير قادراتٍ على تحصيل كلِّ شيء؟ Why Women Still Can't Have it All?». وذلك في إشارة إلى أن ثمار الجمع بين أعباء الجبهتين –داخل المنزل وخارجه– لا تستوي وثمارَ تفرغ الفرد لأحدهما. وتلك المقولة تصدُقُ على الرجال، فثنائية الجبهتين وقسمتهما سنة كونية تجري على الكل سواءً بسواء.

الحاجة إلى النساء في الجبهات الخارجية:

قد يقول قائل: إنه حتى لو استوفت المرأة دورها داخليًّا زوجة وأمًّا بالمفهوم الأصيل، فلا زلنا بحاجة لمن تعمل في الخارج طبيبةً ومهندسةً وعالمةً… وكذا وكذا، وهذا حقٌّ بضوابطه الشرعية والاجتماعية والتربوية، وليس هذا مجال بسطها، والشرع الحنيف لا يمنع المرأة من الخروج لنفع نفسها أو غيرها، أو حاجة شخصية أو مجتمعية، لمجرد المنع بل قد يكون خروجها وقتذاك عبادة تُثاب عليها، وقد يكون واجبًا في حالات أخرى.

ويشهد بذلك تاريخ الإسلام العامر بأعلام النساء في مختلف المجالات: عالمة ومحدثة وفقيهة وشاعرة وأديبة ومعلمة وطبيبة … ونحو ذلك، وذلك في العصور التي كانت المرأة ألصق فيها بالدور وربابة البيت، بينما العكس تمامًا في عصر اليوم الذي المرأة فيه أميل للانفتاح والانطلاق! ومجرد التأمل في فارق المحصّلتين على المستوى العلمي والمهني وبنية الشخصية يشهد بأنَّ الإشكال ليس في البيت والستر، وإنما كان ويظل في حُسن التربية وعُمران الفرد أولاً، ثم طباع المجتمع من حيث اهتمامه بالمعالي أو انكبابه على السفاسف.

لذلك فالكلام هنا على موازنة الكفتين والعناية بالجبهة الداخلية قبل الانكفاء الخارجي، ولفت الانتباه إلى أن التوظف في المجال العام ليس شرطًا لتحقيق الذات ولا حتى سبيله الأكيد[2]! ذلك أن ما يزكّي الشخص حقًا –امرأة كان أم رجلاً– هو يقظته لشأن نفسه بحرصه على تعهد روحه وفكره وآفاقه وتجديد إنتاجه ومراجعة أهدافه ونواياه فيما يعمل أو يترك.

وبغير كثير من التنظير والفلسفة، فنظرةٌ مستبصرةٌ على واقعنا تُرينا أنَّ إخفاق الأمهات على الجبهة الداخلية في أنفسهن أولاً، هو ما جعلنا بحاجة لكل هذا الترميم خارجيًا: محاضرات في التنمية البشرية والتعامل الأسري، ومهارات التواصل والتعبير عن الذات، والكبت النفسي والتعلق القلبي والانعزالية والشعور بالغربة والوحدة والتشتت، وفقدان الهوية والتفاهة والسطحية والجهل المشين المتفشي في أوساط الشباب –ذكورًا أم إناثًا– وهم زهرة المجتمع وقلبه.. فإذا كان نصف المجتمع عاجزًا عن إصلاح نفسه؛ فكيف يَصلُح به النصف الثاني؟! ثم بالفعل لدينا الطبيبة والمهندسة والعالمة… وكل أصناف النساء في كل أنواع الجبهات الخارجية، ومع ذلك لم يسدّ حضورها ثغرات الجبهة الداخلية. فلنبدأ بجبهاتنا الداخلية أولاً، أي بنفوسنا، ثم تمتد بفَيء ظِلها حيث يفتح الله تعالى عليها.

ختامًا:

حين نتحدَّث عن تربية الأم لنفسها ليُمكنَها أن تفيض على أولادها علمًا راسخًا ودينًا قيّمًا، لا مجرد توريث العادات والتقاليد التي ورثتها هي، يبدأ التملّص من المسؤولية بأسطوانات وجع القلب وضيق الوقت وتقصير ذَويها في حقها من قبل، وكثير من الأسطوانات المشروخة ليس هنا مجال تفنيدها أو تأييدها. وإنما منشأ الخلل المشترك في كل ذلك يكمن في أننا نترك الظروف والحياة تسيّرنا، ونرتاح إلى ما يُهدِيه لنا هذا الطبع المتخاذل الخائر من رفع للشعور بالمسؤولية أو إحساس بالذنب أو التقصير؛ فضحية ظروفه لا يمكن بحال لَوْمه على ما آل إليه حاله ولو بقدر صغير! ولأن هذا الوضع في نفس الوقت غير مُرْضٍ ولا مُجزٍ لصاحبه نفسيًّا أو روحيًّا أو عقليًّا الذي يعي في قرارة نفسه أنه ما يزال مسؤولاً عن نفسه وعمله في عمره، تكون ردة الفعل الوحيدة الباقية كثرة التذمر والشكوى والاكتئاب وكافة أشكال التفريغ العاطفي السلبي بين الحين والآخر.

وتظل ثمّة مأساة تتطلَّب حلاً، والتقصير والتفريط لا بدَّ من تداركه عند مرحلة ما. والحق أنَّ هنالك ساعاتٍ مهدرة في اليوم يمكن الإفادة منها، وأننا نُوجِد –حين نريد– الوقت لمتابعة مسلسل أو زيارة صديقة، وأننا نركَن إلى المألوف من العادات الرتيبة ونخشى مسؤولية أكثر من «المتعارف عليها» ولو كنا سنحاسب عليها وقت لا ينفع قول: ﴿رَبِّ ٱرۡجِعُونِ﴾! والحق أن كل من بلغ سنَّ العقل والرشد مسؤول عن تربية نفسه وتهذيبها في عصر العلوم والمعارف والوسائل مفتوحة على مصراعيها تدعو السالكين، وأنّ ثمّة تاريخ انتهاء صلاحية للوم الوالدين والظروف والمجتمع، وأنّ كلَّ محرومٍ إذا لم يجتهد في رفع الحرمان عن نفسه بنفسه عند مرحلة معينة ينقلب هو الحارم لنفسه والمؤاخَذ بهذا، ولا يغني عنه في ميزان الحساب أن يقول: إنا وجدنا أقرانَنا كذلك يفعلون!

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة