روى البخاري في كتاب المغاري، ومسلم في فضائل الصحابة من حديث أبي موسى الأشعري --رضي الله عنه-- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنِّي لأعرف أَصْواتَ رُفقةَ الأشعريِّين بالقرآن حين يدخلونَ بالليل، وأعرِف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل

روى البخاري في كتاب المغاري، ومسلم في فضائل الصحابة من حديث أبي موسى الأشعري --رضي الله عنه-- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنِّي لأعرف أَصْواتَ رُفقةَ الأشعريِّين بالقرآن حين يدخلونَ بالليل، وأعرِف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنتُ لم أرَ منازلهم حين نزَلوا بالنهار"( ).

  يتملَّكُني العجب، وتسيطر عليَّ مشاعر الحبِّ حين أقرأ عن هذه الرفقة، وودت لو كنتُ بينهم أستمع لتراتيل الآيات تسري من منازلهم في جوف الليل، ماذا لو كنت واحدًا منهم يصدح بالقرآن؟! أيُّ أجواءٍ تلك التي يقضونها استثارت مكامن الإعجاب في نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يمرُّ على ديارهم.

   إنها رفقة الإيمان التي تذكِّرك بالله والدار الآخرة، رفقة رقَّت قلوبهم، وصفت نفوسهُم، وتألَّقت أرواحهم. رفقةٌ تدفعك لليقين وتسكِّن من روعك. رفقةٌ تذوق معها حلاوة الإيمان، وبرد الطاعة، تقف في صحبتهم وساوس الشيطان وأزَّاتِ الذنوب. رفقةٌ لا تجد في رحابها إلا الثقة بالله، والإقبال على الله، فالهمُّ ما يرضي الله وكفى بذلك شرفًا.

 (رفقة الأشعريِّين) نموذجٌ لكلِّ رفقة لا تملك في جموعهم إلا أن تسبِل الدمع، ويركع القلب مسبِّحًا في ملكوت الله تعالى، رفقة الأشعريِّين عنوانٌ لأيِّ رفقةٍ جمعت قلبها على الله، وأناخت همَّها لمرضاة الله، رفقةٌ عندها من الصفاء ما يعين على الدلجة، ومن النقاء ما يبلِّغ الزاد ويوصل للطريق، فهنيئًا لمن صحب أمثال تلك الرفقة، ويا سعد مَن وُفِّقَ لرفقةٍ كـ(رفقة الأشعريِّين).

    في الحضِّ على مثل هذه الرفقة جاءت وصية الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يصبِّر نفسه مع مَنْ معه على ما فيه رضاه -تبارك تعالى-، ولا تستهوينَّهُم بهارج الدنيا الملفتة، قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].

    ويوم أن تختلَّ الأجواء المعينة للرُّفقةِ على البرِّ والطاعة والخير؛ تأتي وصية الله تعالى لهم أن يعيدوا ضبط البوصلة نحو ما فيه إبقاءُ منسوب الإيمان حيًّا في قلوبهم، في هذا السياق نقرأ خبر اعتزال فتية الكهف مجتمعهم المحيط جهالة وكفرًا، وإيثارهم الفرار بدينهم طلبًا لمرضاة الله تعالى، قال تعالى: (وَإذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) [الكهف: 16].

   لقد سطَّرت السيرة النبوية نماذج على غرار (رفقة الأشعريِّين) أحسن -صلى الله عليه وسلم- تربيتهم، واهتمَّ بالأجواء الإيمانية المصاحبةِ لتلك الرفقة كوسيلةٍ معينةٍ لهم على الثبات والتضحية، وفي هذا المقام نسجل نماذج من رفقةٍ تحاكي (رفقة الأشعريِّين) صفاءً، وتزكيةً، وعبادةً؛ لتكون رسالةً للجيل القادم ولجملة من يلتحق بمحاضن التربية أَنْ: (على مثل هذه الرفقة فاجتمِعُوا).

رفقة دار الأرقم:

   نقلت كتب السيرة توصيفًا لدار الأرقم في بُعدها الأمنيِّ مبرزةً أهميتها في الحفاظ على مكتسبات الدعوة، إلا أنَّ المهام التربوية التي تقلَّدتها هذه الدار في صناعة رجال الدعوة الأُوَل توضح بجلاء أهميَّة ما كان يدور فيها من منهجية في التعليم والتزكية.

   لقد كانت دار الأرقم محضنًا تربويًّا يجمعه -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه، يصلون ويتلون القرآن، يبثُّونه همومهم، ويقصُّون عليه أخبارهم وما يلقونه من أذى من المشركين، يزكيهم ويعظهم، ويخفّف عنهم، ويعدهم بالأجر العظيم والثواب الكبير الذي أعدّه الله -تعالى- للصابرين، أجواء كهذه لا شكَّ أنها تشرق في نفوسهم اليقين بالله تعالى، والثقة بما عنده، وتنزل كلماته -صلى الله عليه وسلم- على جروحهم الغائرة وأجسادهم المنهكة بالتعذيب بلسمًا وشفاءً. بحقٍّ كانت "دار الأرقم محضنًا يجمع بين دفء الأخوّة وعمق التربية، حيث يجتمع النزاع من العشائر والقبائل في مكان خاصٍ لا يجمعهم سوى الإيمان وواجباته، فيتلقون دروس التربية الإيمانية، ويقيمون العبادات والأعمال، ويواسي بعضهم بعضًا بما يحتاجونه. لقد كان ذلك المحضن الإيماني هو البديل عن كل صِلات القربى وروابط العشيرة وعلائق القبيلة"( ).

   وبالتأمُّل في المادة الدراسية التي قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بتدريسها في دار الأرقم لتلك الثلَّة المؤمنة نجد محور التركيز: القرآنُ الكريم الوسيلة العظمى في تهيئة أجواء الإيمان لتلك الرفقة، وكانت الصلاة أحد الأعمال المقامة فيها، "كان روح القدس ينزل بالآيات غضة طرية على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيسمعها الصحابة من فم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، فتسكب في قلوبهم، وتتسرب في أرواحهم، وتجري في عروقهم مجرى الدم، وكانت قلوبهم وأرواحهم تتفاعل مع القرآن وتنفعل به، فيتحول الواحد منهم إلى إنسان جديد، بقيمه ومشاعره، وأهدافه، وسلوكه وتطلعاته"( ).

   مثَّلت هذه الأجواء الإيمانية التي هيَّأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهذه الرفقة أرضية صلبةً يمكن البناء عليها في الترقي في مقامات العبودية، لقد صنَعت جيلاً فريدًا ذا حسٍّ مرهفٍ في تعامله مع القرآن الكريم علمًا وعملًا؛ ظهر ذلك في تجارتهم وهجرتهم وجهادهم، في تعاملاتهم وحلِّهم وترحالهم، وشواهد السيرة والتراجم مليئة بتلك الأحداث لمن أراد التأكيد على هذه القضية.

أهل الصُّفة:

    الصفَّة مكانٌ جعله النبي -صلى الله عليه وسلم- لنـزول الغرباء العزَّاب من المهاجرين والوافدين إلى المدينة، الذين لا مأوى لهم ولا أهلٌ، يقلُّ عددهم حيناً، ويكثر أحياناً باختلاف الأوقات، على أنَّ عدد المقيمين منهم في الظروف العادية كان في حدود السبعين رجلًا. ويذكر السمهودي أن أبا نعيم سرد أسماءهم في الحلية فزادوا على المائة( ). 

  أهلُ الصفةِ رفقة أخرى تذكِّرك بـ(رفقة الأشعريِّين)، رفقةٌ تشعرك بروحانية المكان، وعبق الإيمان، اجتمعوا مع فقرهم وقلة ما في أيديهم على أجواءَ تحفُّهم بالإيمان، ويصدح بينهم صوت القرآن، فيا لجمال تلك الأجواء، ويا لهناء تلك الرفقة!!

    كان -صلى الله عليه وسلم- يزورهم ويتفقَّد أحوالهم، ويعود مرضاهم، يُكثر مجالستهم، ويُذكِّرهم ويُعلِّمهم ويُوجِّههم إلى قراءة القرآن الكريم، ويُقْرِؤُهم في بعض الأحيان، يروي أبو نعيم في الحلية عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: أقبل أبو طلحة يومًا، فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ يُقْرئ أصحاب الصفة، على بطنه فصيلٌ من حجرٍ يقيم به صلبه من الجوع( ).

  ولقد بلغ من حرصه -صلى الله عليه وسلم- على تهيئة الأجواء الإيمانية والأخذ بأيدي هذه الرفقة خشية عدم تفرُّغه لإقرائهم؛ أنْ عَيّن لهم قارئًا للقرآن الكريم، يأتيهِ منهم ليلًا مَن لا يحسن قراءة القرآن الكريم، أو مَنْ يُريد حفظه، فعن عبادة بن الصامت قال: "علَّمت ناسًا من أهل الصفة الكتابة والقرآن، فأهدى إليَّ رجل منهم قوسًا. فقلت: ليس بمال، وَأَرْمِي عنها في سبيل الله؛ لآتينَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلأسألنَّهُ...". الحديث( ).

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه-، قال: أتى علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن أناسٌ من ضعفة المسلمين، ورجلٌ يقرأ علينا القرآن ويدعو لنا، ما أظنُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرف أحدًا منهم، وإنَّ بعضهم ليتوارى من بعضٍ من العري، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده، فأدارها شبه الحلقة، فاستدارت له الحلقة، فقال: "بِمَ كنتم تراجعون؟". قالوا: هذا رجلٌ يقرأ علينا القرآن ويدعو لنا. قال: "فعودوا لما كنتم فيه"، ثم قال: "الحمد لله الذي جعل في أمتي مَنْ أُمِرت أن أصبِّرَ نفسي معهم"( ).

      وهذا خطاب الآخرة والموعظة التي ترقُّ بها القلوب، والدعوة لتعاليم الإسلام حاضرٌ منه -صلى الله عليه وسلم- حين يمرُّ أهل الصفَّة بوقت فيه أزمةٌ وشدَّةٌ فيكون عونًا لهم وتثبيتًا؛ يقول العرباض بن سارية -من بني سليم من أهل الصفة-: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا، فقام فوعظ الناس ورغَّبهم وحذَّرهم وقال ما شاء الله أن يقول، ثم قال: "اعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَطِيعُوا مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ أَمْرَكَمْ، وَلاَ تُنَازِعُوا الأَمْرَ أَهْلَهُ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ، وَعَلَيْكُمْ بِمَا تَعْرِفُونَ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّكُمْ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَى نَوَاجِذِكُمْ بِالْحَقِّ"( ).

  لقد آتت تلك الجلسات القرآنية، والأجواء الإيمانية أثرها في تلك الرُّفقة المباركة من أهل الصفة، فلقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث بعضهم لنشر الإسلام حيثما لزم الأمر. ولمَّا تعلَّموا القرآن سُمُّوا بالقرَّاءِ، وكانوا يُرسَلون لتعليم الآخرين، هذا أبو هريرة، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعودٍ، كلهم من أصحاب الصفة، نماذجُ عاشتْ أجواء تلك الرفقة المباركة، فألبستهم لباسَ التقوى.

    وذلك درسٌ في أهميَّة أن يعيش المتربِّي هذه الأجواء؛ ويحرص على مثل تلك الرفقة لتكتمل أهليَّته، ويعظم نفعه، وتحلَّ بركته. ولله درُّ أبي نعيم وهو يلخِّص تلك الأجواء التي تربَّى عليها أهل الصفة، يقول: "قومٌ أخلاهم الحقُّ من الركونِ إلى شيءٍ من العروض، وعصمهم من الافتتان بها عن الفروضِ. وجعلهم قدوةً للمتجردين من الفقراءِ، كما جعل مَنْ تقَدَّم ذكرهم أسوةً للعارفين من الحكماء. لا يأوون إلى أهلٍ ولا مالٍ، ولا يلهيهم عن ذكرِ الله تعالى تجارةٌ ولا حالٌ، لم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا، ولا يفرحون إلا بما أيَّدوا به من العقبى. كانت أفراحهم بمعبودهم ومليكهم، وأحزانهم على فوت الاغتنام من أوقاتهم وأورادهم"( ).

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة