الدعوة إلى الله -عز وجل- كانت ومازالت أرقى وأسمى مجالات العمل الإنساني، وأفضل سعي يسعاه المسلم في الدنيا، وفضلها من الوضوح والبيان وتظاهر الدلائل وقيام الأمارات ووضوح العلامات

الدعوة إلى الله -عز وجل- كانت ومازالت أرقى وأسمى مجالات العمل الإنساني، وأفضل سعي يسعاه المسلم في الدنيا، وفضلها من الوضوح والبيان وتظاهر الدلائل وقيام الأمارات ووضوح العلامات؛ مما لا يحتاج منا لبيان وطلاقة لسان، فمتى احتاج ضوء النهار دليلاً على ظهوره؟!

ومن بين مجالات هذا العمل المبارك، يأتي في القلب وسواد العين مجال التربية الدعوية؛ لما فيه من خيرية عظمى وأهمية قصوى، عظمت وما زالت تتعاظم في هذا الزمان الزاخر بالفتن والمغريات ومثيرات الشغب على طريق الهداية والرشاد.

فالفتن لم تدع بيتًا إلا دخلته، ولا كيانًا إلا ضربته، ولا خيرًا إلا أفسدته، ولا عملاً وسعيًا إلا أجهضته، وما كان يحتاج بالأمس لعمل ساعة أو ساعتين، أصبح اليوم يحتاج لعمل وجهد أسبوع وأسبوعين؛ لكثرة الشبهات والشهوات والمعطلات.

وهذه البيئة الخطرة لمجال التربية والدعوة إلى الله تحتاج لأمرين كلاهما لا يقل أهمية عن الآخر:

الأول: مضاعفة الجهود وبذل التضحيات وتوسيع المساحات المخصصة لهذا العمل التربوي المهم والخطير.

والثاني: تنقية هذا العمل من الآفات والمعوقات التي تشوب هذا العمل، وتعطل آليته، وتضعف ثمرته، وتؤخر نجاحه.

وكلا الأمرين لن يتحقق -بعد الأخذ بالأسباب المعنوية من الإخلاص والصدق والمتابعة- إلا بوجود الكوادر التربوية المؤهلة للقيام بهذا العمل بكفاءة وفهم ومهارة، وهو الأمر الذي لن يتّأتى إلا باعتماد أجندة تدريب تربوي محكم نصل به إلى هذه الكوادر الناجحة التي يمكن أن نعتمد عليها، ويستمر بها تواصل عمل التربية بكفاءة ورشد. فإن الدعوة -كغيرها من الأعمال- تحتاج إلى دربة وخبرة، وما من عمل أتقنه صاحبه بالفطرة، مصداق ذلك قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل 78]

فضعف التدريب من أبرز آفات العمل التربوي المعاصر، ولا عجب إذًا أن تخرج نماذج مشوهة من نتائج هذا الضعف التدريبي، فرغم النوايا الطيبة والأهداف الراقية إلا أن الحقيقة المريرة؛ أن كثيرًا من الدعاة إلى الله تعالى لا يعرفون الكيفية الإيجابية للدعوة، ولا الخطوات الشرعية المحكمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بسبب أنه لم يتدرب على أداء هذه المهمة تدريبًا كافيًا، وربما لم يتدرب عليها بالكلية، والشواهد على ذلك كثيرة، من خطيب حاز الشهادة النظرية المؤهلة، في حين لم يرتق المنبر ولا مرة في حياته ليتهيأ لهذا المقام الرفيع، ومراكز دعوية وخيرية وإغاثية في بلاد خارجية يوفد إليها دعاة لا يحسن لسان القوم ولا عاداتهم ولا طرائق تفكيرهم، وبرامج إعلامية على الفضائيات تتصدى لمناقشة قضايا مهمة بصورة سطحية، ويتناولها أشخاص غير مؤهلين ليس لهم تجارب سابقة، ولا تصورات صحيحة، ولا قواعد منضبطة فيما ينبغي قوله وتركه، والمحصلة النهائية لكل هذه العشوائية وعدم التدريب كوراث متتابعة، وأزمات ونكبات يدفع ثمنها الدعاة والمربون في كل مكان.

قد يري البعض أن التدريب وبرامجه ووسائله ما هي إلا نوع من الترف التنظيمي الذي تمنعه الحاجة الماسة للعمل والبذل وضخامة المشكلات التي تواجه الأمة، وقلة العاملين وكثرة الأعباء، وأن التدريب رفاهية لا تملكها الأمة حاليًا لضعف الإمكانات وكثرة التحديات، ولكن بتقليب النظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -رضوان الله عليهم- وسلف الأمة من القرون الفاضلة وتجارب النماذج التربوية الناجحة عبر العصور؛ نجد أن التدريب كان أحد ركائز العمل وأحد أهم أسباب النجاح، بل كان يعد أحد الأدوات الأساسية في تكوين الدعاة وبناء وعيهم الفكري والحركي.

فالتدريب الدعوي يحدد الهدف والغاية والأسلوب والشخص الأنسب للعمل، ويضع الخريطة الأفضل للعمل، ويحوّل الجهود النظرية إلى واقع عملي ملموس على مستوى الحركة والتطبيق، ويكشف مزالق ومعوقات البيئة قبل التنفيذ، ومن دونه يصبح العمل الدعوى وفتح مجالات جديدة فيه بمثابة قفزة في الظلام لا يدري صاحبها أين ستنزل قدمه، على أرض أم على هاوية؟!

التدريب في حياة الأنبياء:

والمتأمل للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة وحياة الأنبياء والمرسلين ورحلتهم الدعوية يجد عشرات بل مئات النصوص الدالة على هذه المهمة الرفيعة؛ ما يجعل مسألة تأصيل التدريب من مسلمات الوحي المعصوم.

فالمتأمل لصنيع الله -عز وجل- مع أنبيائه -صلوات ربي وتسليماته عليهم- يعجب لهذا الإعداد الرباني الدقيق والتدريب العميق المحكم لأوليائه وأصفيائه، من أجل التأهل للمهمة العظيمة المنوط بهم أداؤها؛ فالنبوة اصطفاء في المقام الأول، ولكن بعد الاصطفاء والاختيار تأتي عملية الصنع والإعداد الإلهي لهؤلاء المصطفين الأخيار، بل نكاد نلمح عدة خطوات ثابتة سلكها جميع الأنبياء على طريق النبوة، كانت بمثابة الإعداد المبكر لهم قبل خوض غمار أشق مهمة عرفها البشر وأجلها؛ الدعوة إلى الله.

فمثلًا جميع أنبياء الله عملوا في سن مبكرة، وفي وظيفة محددة، وهي رعي الأغنام كما صح بذلك الخبر؛ ليتدربوا على الاعتماد على النفس، وحسن السياسة، والرفق بالناس، والصبر والحلم على الطباع النافرة.

أيضًا جميع أنبياء الله حُبِّبت إليهم الخلوة والعزلة عن الناس قبل الدعوة، لتسمو نفوسهم فوق جذبات الأرض وضغوط الواقع، وزحمة الحياة وشواغلها الصغيرة، فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة، والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة؛ فهو الذي يؤهّل الروح الكبيرة لرؤية ما هو أكبر.

أيضًا اختص الأنبياء دون غيرهم بمزيد من التكاليف والأوامر التعبدية والمواقف الحياتية الشاقة، من فرض صلوات معينة كقيام الليل، أو مواصلة صيام العديد من الأيام، أو السياحة في الأرض، أو الهجرة من مكان للآخر، أو مواجهة الطغاة والجبارين، أو التعرض للظلم والبهتان والافتراء... وهكذا مما جرى مع أنبياء الله في رحلتهم الدعوية.

التدريب في حياة الصحابة الكرام:

وتزخر السيرة النبوية بعدد وافر من المواقف التدريبية التي يظهر معها بوضوح مدى العناية الفائقة التي أولاها النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه المسألة المهمة، ويظهر معها أهمية التربية الدعوية، وتهيئة الدعاة عمليًا؛ فمن تلك المواقف:

1-تدريب الصحابة على الأساليب الدعوية:

فعندما أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل -رضي الله عنه- إلى اليمن علَّمه كيف يصنع، ودربه على الكلام مع القوم الكافرين، فقال له: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم".

ففي هذا الحديث تدريب لمعاذ، وميثاق عمل واضح على أفضل أسلوب لدعوة أهل اليمن، وكيفية محاورتهم، وسلم الأولويات في الخطاب الدعوي لهؤلاء القوم تحديدًا؛ ففي صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال معاذ: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب". فوصفهم له حتى يكون على معرفة بمن سيقدم عليهم، ولأن أهل الكتاب يُفترض أن يكونوا أكثر قبولًا للدعوة من غيرهم من الوثنيين.

هذا الأصل التدريبي الكبير يمثل حجر الزاوية في الخطاب الدعوي، ويغطي العديد من التساؤلات والمسارات في العمل؛ يغطي مسار التدرج، ومسار الأولويات، ومسار الأصول والفروع، ومسار عقلية المخاطب، ومسار العلاقة بين أركان الدين. فحديث معاذ يبين للدعاة مثلًا أنه لا فائدة من دعوة قوم إلى فروع وهم عن الأصول غافلون، ولا فائدة من دعوتهم إلى أصل كان غيره أولى منه وأجدر بالدعوة إليه.

2-تدريب الصحابة على أعمال لها علاقة مباشرة بالدعوة مثل القضاء والفتوى:

فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعهد إلى بعض الصحابة بالقضاء والفتوى قاصدًا من ذلك التمرينَ على الاجتهاد؛ وذلك لأنه ليس لأحد أن يفتي أو يقضي بحضرة رسول الله، ولكن الغرض هو تدريب الصحابة -رضي الله عنهم- على شؤون القضاء والفُتيا بحضرته -صلى الله عليه وسلم-.

فعن عقبةَ بن عامر الجهني -رضي الله تعالى عنه- قال: جاء رسولَ الله خصمان، فقال: "اقضِ بينهما"، قال: أنت أولى بذلك مني يا رسول الله، قال: "وإن كان". قال: فإذا قضيت بينهما فما لي؟! قال: "إن كنتَ قضيت بينهما فأصلحت القضاء فلك عشر حسنات، وإن أنت اجتهدت فأخطأت فلك حسنة". وللحديث روايات أخرى من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما-.

وعن علي -رضي الله تعالى عنه- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضيًا، فقلت: يا رسول الله، ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟! فقال: "إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضينَّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء". قال: فما زلت قاضيًا، أو: ما شككتُ في قضاءٍ بعدُ.

هذا التدريب النبوي للصحابة على مهام دعوية ثقيلة مثل القضاء والفتيا يعد من أنجح الاستراتيجيات التربوية في مجال الدعوة؛ لأن ولاية هذه المهام الجسيمة يتطلب طرازًا معينًا من الرجال ذوي الكفاءات والهمم والعقول النيرة، واستكشاف تلك العقول لن يتم إلا من خلال تجربة عملية يتدرب فيها الداعية على تبعات المهمة، وكيفية أدائها، والتعرف على طبيعتها ودهاليزها الكثيرة، تجربة تكشف مدى الاستعداد، وتقيس قدرة الأداء، وتقيّم مستوى الكفاءة، وتسجل ما قد يعتري الشخصية من تغيرات نتيجة ممارسة المهمة الثقيلة التي أثبت التاريخ والزمان صعوبة العثور على الأكفاء فيها.

3-التدريب على مهارات الدعوة:

الداعية لابد أن يكون متقنًا للعديد من المهارات الدعوية الخاصة بعملية التواصل والتأثير في جمهور المستمعين، مثل الإلقاء والخطابة والإقناع والإنصات والتفاوض والتقييم والتقدير... إلى آخر هذه المهارات المهمة.

هذه المهارات كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلمها لأصحابه في ثنايا معايشته لهم وتعليمه لهم أمور دينهم ودنياهم، والتدريب بالمعايشة من أفضل الأساليب التربوية على الإطلاق؛ إذ تتشرب القلوب والنفوس بالمفاهيم والأسس التربوية اللازمة في الدعوة والحياة كما يتشرب الزرع بالماء؛ ببطء وهدوء على مدار زمان واسع يحقق التركيز والتأسيس اللازم.

فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كان دائمًا ما يطرح الأسئلة على أصحابه وينتظر منهم الإجابات الكاشفة لمستوى العقول وتفاوت الأفهام، ويدربهم من خلالها على أدوات الإقناع، ثم يجيب بنفسه على السؤال مبينًا الحق والصواب. كما في حديث المفلس، وحديث الشاب الذي يريد إباحة الزنا، وحديث جبريل وأركان الإسلام والإيمان.

4-تدريب الصحابة على إدارة بعض شؤون دنياهم:

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدرِّب الصحابة على إدارة بعض شؤون دنياهم من الولايات والمناصب العامة حتى يتأهلوا لشغلها حال وفاته -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يبني أمّة، ويخطط لبناء دولة ستقود العالم بأسره.

فكان هذا التدريب والانتقاء وفق مهارات وكفاءات وقدرات كل واحد منهم، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كان أبصر الناس بالناس، وأخبر الخلق بأصحابه، ومن خلال هذا العلم والخبرة استطاع -صلى الله عليه وسلم- توظيف أصحابه في الوظائف المناسبة، وتكليفهم بالمهام اللائقة بكفاءاتهم ومواهبهم.

فجعل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص مثلاً قادة جيوش وأمراء سرايا، في حين جعل معاذًا بن جبل وعليًا بن أبي طالب دعاة وقضاة، وجعل مصعبًا بن عمير سفيرًا، وجعل أبا بكر وعمر وزراء ومستشارين، ومحمدًا بن مسلمة قائدًا للحرس النبوي، وقيسًا بن سعد بن عبادة قائدًا للشرطة، وثابتًا بن قيس خطيبه، وحسانًا بن ثابت شاعره، وحذيفة بن اليمان أمين سره، وعمرًا الضمري قائدًا للعمليات الخاصة –الكوماندوز-... وغيرهم كثير. وذلك كله حتى يكونوا مستعدين للمشاركة الفعالة في بناء الأمة الإسلامية.

إن الدعوة الإسلامية تملك حقائق تربوية كثيرة لم توظفها التوظيف الأمثل في منهجيتها التربوية، وإنما وفي حال تمّ التوظيف فإنه سيدفع الدعوة إلى الإمام دفعة قوية، وتدفع معها الأمة بأسرها، فإنما نحن أمّة الدعوة، واصطفاؤنا من شهودنا على الأمم، وخيرتنا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورسالتنا القيام بواجب البلاغ.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة