المدارس الأكثر جودة.. كيف ينبغي لأبحاث التطور الإنساني أن تسهم في الممارسة التربوية؟!

توماس أرمسترونج

ترجمة: أ.د صالحة سنقر

من وجهة نظري، وحسب عملي كمُدرّسة لمختلف المراحل لما يقارب السنوات العشر؛ فإن نظرة المجتمع والطلاب والأهل للتعليم والمدراس، تتخلص في موقفهم في السنة الأخيرة من الدراسة الثانوية، أي في الثانوية العامة سنة تحديد المصير كما يريدون أن يسمونها، وكنت أعتقد أن هذه مشكلة التعليم في العالم العربي فحسب، إلى أن قرأتُ كتاب (المدارس الأكثر جودة) لتوماس أرمسترونج، والذي يقدم عدة أبحاث عن التعليم وفق ما أسماه نظرية التطور الإنساني.

فبالإضافة إلى كثرة الأعداد في الفصول الدراسية، وطريقة التعليم التلقيني ومصيبة الاعتماد على الدروس الخصوصية التي انتشرت في السنوات الأخيرة وغيرها من الكوارث التعليمية التي تعاني منها منظومة التعليم في العالم العربي، فإن ضغط المناهج على الطالب والتركيز على النتائج وتحصيل الدرجات العالية في الامتحان والاختبارات التي يخضع لها الطالب، والتركيز على الذكاءين اللغوي والرياضي في المناهج، كل هذه وغيرها هي مشكلات مشتركة يعاني منها التعليم والطلاب والمدرسون معًا في أغلب دول العالم إن لم يكن جميعها. وهذا مايسميه الكاتب طريقة التحصيل الأكاديمي.

طريقة التحصيل الأكاديمي:

وهي حسب ما يُعرِّفها الكاتب بمجموع الأعمال التي توضح الهدف الأساس للتربية كداعمة لقدرات الطالب للحصول على درجات عالية في الاختبار المعياري في المساقات، وقد وضع عدة افتراضات لتوصيف هذه الطريقة:

1- المحتوى الأكاديمي والمهارات هي الأشياء الأهم التي يتم تعلمها.

2- يحدث قياس الإنجاز من خلال الدرجات والاختبارات المعيارية.

3- اعتماد المنهج الأكاديمي الذي يأخذ الطلاب كلهم وبصورة واحدة.

4- ذات توجه مستقبلي بصورة رئيسة.

5- طريقة تعتمد بطبيعتها على المقارنة.

6- ترتكز على أساس البحث العلمي.

7- تحتل مكانها من القمة إلى القاعدة، يفرض المسؤولون في القطاع التعليمي البرامج والمناهج وليس حسب رؤية المدرسين.

8- تعتمد على الحد الأدنى من العلامات ودرجات الاختبار والتعليم اللامحدود والمال.

ولم تأتِ هذه الطريقة من فراغ، وأيضًا لم تولد فورًا بهذا الشكل، بل جاءت على مراحل طويلة المدى في نشأة التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية كان آخرها الشعار الذي اعتمدت عليه الولايات المتحدة الأمريكية (التعليم للجميع).

ولكن رغم بعض الإيجابيات التي تحملها هذه الطريقة، إلا أن سلبياتها كثيرة –حسب رأي الكاتب- وفي أغلب محاورها التي ذكرها لا تناسب العصر الحديث والطريقة التي يسير بها سوق العمل، ومن هذه السلبيات:

1- مساحة مهملة من المناهج، والتي هي جزء من حاجة الطلاب للتعلم الجيد المحوري لكي يختبروا الإنجاز والنجاح في الحياة.

2- إهمال التدخلات التعليمية التي لا يمكن إثباتها استنادًا إلى معطيات البحث العلمي.

3- تشجيع طريقة التدريس المناسب للاختبار: (ادرس ما يجعلك تحصل على درجات عالية).

4- تدفع هذه الطريقة الطالب ليستخدم طرقًا ملتوية في الامتحانات مثل الغش، وأيضًا قد يستعين بمدرّس أو طالب آخر ليقوم بعمل واجباته.

5- تسبب مستويات من التوتر لكل من الطلبة والمدرسين، وهذا أمر نراه كل يوم من حالات اكتئاب وأمراض جسدية سببها نفسي مثل القولون والمغص والصداع.

6- تدفع الطلبة الذين لا يقدرون على الانسجام مع المناهج وضغطها إلى الانسحاب من المدرسة.

7- لا تأخذ بعين الاعتبار الفروق الفردية بين الطلاب واختلاف خلفياتهم الثقافية والاجتماعية.

8- تتجاهل القيمة الحقيقية للتعلم والغرض منه.

طريقة التطور الإنساني:

كم معلمًا اختار هذه المهنة ليجعل طلابه يحصلون على درجات عالية؟! وكم معلمًا اختار مهنته لمساعدة الأطفال على الوصول لكامل إمكاناتهم؟!    

في الحقيقة حتى المعلمين الذين يعملون ضمن طريقة الإنجاز الأكاديمي، فإن دوافعهم -حسب ما يقول الكاتب- تحكي عن تطوير حياة الشباب والتأثير في الأطفال وتأكيد النجاح في حياتهم، وما يتحدثون عنه يلخص بشكل ما طريقة التطوير الإنساني!

فهذه الطريقة تعطي أهمية خاصة للإنسان، في حين أن كلمة الأكاديمي تمثل شيئًا جامدًا، بينما تمثل كلمة الإنسان الكيان الحي والذاتي القابل للحوار. ويطرح افتراضات توضح معنى هذه الطريقة أو النظرية.

1- الوصول إلى الإنسان الكامل أهم جانب من التعلم.

2- تقييم مراحل نمو الإنسان المتكامل، وهو تقييم مستمر وذو معنى.

3- تفضل منهجًا مرنًا ومميزًا، وتعطي الطالب خيارات ذات معنى.

4- تهتم بماضي الإنسان وحاضره ومستقبله.

5- طريقة ذات طبيعة نفسية/ ذاتية.

6- تتوقف منطلقات التطور الإنساني على غنى خبرات الإنسان.

7- تتسم هذه الطريقة بالعدل؛ إذ تشرك المعلمين واالإدرايين والطلاب في المعرفة والتعليم ووضع المناهج.

8- حسب فرضية الكاتب، فإن العاملين في هذه الطريقة يتمتعون بالسعادة.

نشأت طريقة التطور الإنساني على مدار عقود من الزمن بدأت مع جان جاك روسو عام 1762 بنشره كتاب (إيميلي)، وانتهت بعدة مدارس لها نظريات متعددة تصب في هذه الطريقة مثل مدرسة ماريا مونتسوري الأشهر في عالم الطفولة المبكرة والمرحلة الابتدائية.

ويقسم الكاتب المراحل التعليمية إلى أربع مراحل:

الطفولة المبكرة، المرحلة الابتدائية، المرحلة المتوسطة، وأخيرًا المرحلة الثانوية، ويعطي كلاً منها توصيفًا مناسبًا لها حسب طريقة التطور الإنساني، ويذكر أمثلة متعددة لهذه المدارس مع المقارنة بينها وبين طريقة الإنجاز الأكاديمي والأفعال التي تسيء لهذه المرحلة من النمو، والتي تُطبق في المدراس التي تتبع طريقة الإنجاز الأكاديمي.

برامج تربية الطفولة المبكرة: اللعب:

يقارن الكاتب بين حاجات تطور الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة من سن 3-6 سنوات، والتي تختلف تمامًا عما يُقدم لهم في الروضات، فهم حسب ما يقول جان بياجه لديهم قدرة مختلفة في التفكير والعمليات المنطقية، والذي وصفه في كتابه (إدراك الطفل) عام 1975.

وعن أهمية اللعب يذكر أنه عبارة عن عملية دينكاميكية تتغير باستمرار، وتتضمن أحاسيس نفسية متنوعة، وأنه يعمل كوسيط بين ما هو ممكن وما هو حقيقي.

فهم يخلطون الواقع مع ما يتخيلونه، ويسكلونه بطريقة يفهمونها، وتساعدهم على حل مشكلاتهم بطريقة لا نتخيلها.

أما تعليم الرياضيات والمهارات الأولية والتركيز على الاختبارات القياسية المعيارية، والواجبات البيتية والدوام المدرسي الطويل، فهو ما يتعارض تمامًا مع نمو الطفل في هذه المرحلة.

ويذكر الكاتب أمثلة عن برامج للطفولة المبكرة مثل مدرسة ماريا مونتسوري التي انتشرت في كل أنحاء العالم، ومدارس ريغو إيميليا في إيطاليا.

المدارس الابتدائية: تعلم كيف يعمل العالم؟!

في سن السادسة أو السابعة، يترك الطفل العالم السحري للطفولة جانبًا، بحيث لا يستمر باستخدام الصورة الخيالية والروحانية كطرق لفهم العالم، حيث إن تطور النمو العقلي للطفل في عمر السادسة إلى الثالثة عشرة يربط مناطق الدماغ المتخصصة باللغة في فهم العلاقات المكانية، بذلك لا يستمر الأطفال بالخلط بين محتوى تجاربهم الداخلية والخارجية، بدلاً من ذلك يقومون ببناء الشخصية داخل الذات.

الممارسات الملائمة

االممارسات غير الملائمة

الصفوف المفتوحة على العالم الخارجي

بيئة الصف الضيقة

تعليم القراءة والكتابة والحساب وربطها باكتشاف العالم الواقعي الخارجي

التركيز على تعلم القراءة والكتابة والحساب

المواد التعليمية التي تُعد جزءًا من العالم الواقعي مثل الإنترنت والأدب والفن والأدوات العلمية

الكتب وأوراق العمل والواجبات هي المواد التعليمية الرئيسة

استكشاف الطلبة للعالم الخارجي بمساعدة المعلم

البرامج التعليمية المخططة مسبقًا

التعليم قائم على التصدي للعالم الخارجي الذي ينتج الأفكار والتوجهات وردود الفعل والملاحظات وغيرها الكثير.

التعليم قائم وفق البرامج التعليمية

 

المدارس المتوسطة: النمو المعرفي والعاطفي والاجتماعي:

التغيرات التي تحدث في سن المرحلة المتوسطة تجعل من الصعب معرفة هل عليك أن تتعامل مع كبار ناضجين أم مع أطفال مازالوا في سن الطفولة! وهذا يمثل تحديًا في الجوانب المعرفية والعاطفية والاجتماعية لهؤلاء الشباب الصغار.

فالتغيرات الهرمونية أكثر ما تؤثر على توجهات الطلاب في هذه المرحلة، وتشغلهم عن الدراسة؛ ما يؤدي لانخفاض في درجاتهم في الغالب، وتوجه تفكيرهم نحو الخارج لإثبات وجودهم في هذا العالم، والانتقال من الطفولة نحو البلوغ.

ومن أبرز الممارسات غير الملائمة في هذه المرحلة -حسب ما يذكره الكاتب- العدد الكبير في المدارس؛ ما يجعل من الصعب على المدرسين التركيز مع مشاكل الطلاب بشكل خاص، وعدم وجود مناخ مدرسي آمن، وخبرات تعلم عاطفية سطحية لا تمس الطالب بشكل خاص ومباشر.

ويركز الكاتب أهمية وجود علاقة شخصية بين الطلاب والراشدين في هذا السن، الذي يمثل دور المرشد الموثوق به، والناصح والموجه الذي يُشعر الطفل بالأمان والثقة، ويدرك الهدف من تعليمهم، وهو ما يوجد في المجتمعات المسلمة بدور الشيخ أو المربي، والذي تم تقليص دوره بشكل كبير في السنوات الأخيرة.

المدارس الثانوية: تهيئة الطلبة لعيشٍ مستقل في العالم الحقيقي:

في عام 2005 تحدث عنها بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت في قمة التربية الوطنية في واشنطن، وسماها بالمدرسة الآيلة للزوال!

يتحدث الكاتب في هذا الفصل عن الحاجات النمائية في مرحلة المراهقة المتوسطة والمتأخرة، حيث يُعتبر الطلاب في هذا العمر قد تجاوزوا مرحلة المراهقة إلى مرحلة البلوغ، أو ما يسمى بالاستقرار العصبي من ناحية بيولوجية.

ويذكر الكاتب بعض الممارسات التربوية والتطويرية الخاطئة التي تُمارَس في المدارس الثانوية، مثل قضاء وقت طويل داخل الغرفة الصفية بدلاً من المشاركة في الحياة الواقعية العملية، والضغط الأكاديمي المستمر، والتي ذكر العديد من نتائجها في الكتاب.

ختامًا..

قد يجعلك هذا الكتاب تشعر بالنقمة على المدارس وأنظمتها، لكن في لحظة يمكنك أن تأخذ منه الكثير من الأفكار المهمة، والتي يمكن تطبيقها خارج نطاق المدرسة، أو على الأقل التعامل كأهل أو مربين مع الطلاب بطريقة مختلفة.

 

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة