خلقَ الله الإنسان وجعل له حاجات تلزمه للبقاء ولدوام الوجود، وهي الحاجات الأساسية مثل الطعام والأمن: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش4]، وجعل له حاجات فوقها تؤمّن له كرامته التي أعطاها الخالق لكلّ عباده على وجه الأرض،

خلقَ الله الإنسان وجعل له حاجات تلزمه للبقاء ولدوام الوجود، وهي الحاجات الأساسية مثل الطعام والأمن: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش4]، وجعل له حاجات فوقها تؤمّن له كرامته التي أعطاها الخالق لكلّ عباده على وجه الأرض، مهما كان عمره أو جنسه أو لونه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء 70]؛ لذا كان سلب الإنسان هذه الأعطية الربانية تعدّيًا وظلمًا، وتجاوزًا مذمومًا على الحقّ الإنساني.

قد يؤمن أحدنا بهذه الحقيقة لكنه يغفل عنها عند تعامله مع أهل بيته ومع أبنائه؛ فإدراكك أن الإنسان الذي يقف أمامك أو الذي تقوم على رعايته له حاجات ضرورية وهي على مستويات، وأن هذه الحاجات محبوبة لديه ومرغوبة، وعلينا تقدير رغبته تلك وإشباعها بالشكل والكيف الذي يرضي الله ويجنبنا سخطه، فالناس في ذلك بين طرفين اثنين: إما مفرِّط فيها أو مفرْط فيها، والمتزن من توسط وراعى الشرع، قد يفهم أحدُنا حاجات نفسه ويحترمها، لكنه يتجاهل حاجات رعيته فيهملها ويحقّر من شأنها، وقد لا يراها حقًا لهم لمرض في قلبه وسوءٍ في خُلقه، هذه الحاجات جعلها الله في بني الإنسان وزيَّنها له حتى يُقبِل عليها ويشبعها ويحترم وجودها: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران: 14].

من هنا كان لابد من معرفة حاجات الأبناء، فهي ضرورة ملحّة لنجاح الرعاية والتأديب، والإلمامُ بها ضامنٌ رئيس لجودة مخرجات العملية التربوية؛ فإذا أدرك المربي أنّ الحاجات هي التي تتحكم بالسلوك المتولّد عن التفكير بتلك حاجات، عرف كيف ينظر إلى أبنائه ويراعي فيهم التميز والتعثّر، فكلما زاد التفكير والتعلق الذهني بالحاجة زاد استحواذها على صاحبها، وهذه الحالة كفيلة بتحديد منسوب استعباد الإنسان من قبل هواه، فيشتدد لون الشهوة في روحه أو يبهت، وهذا اللون بيده زمام الأمور في ضبط علاقته بذاته وبالمحيط.

إنّك إن أعطيت ابنك الذكر التربية السليمة اللازمة، فقد أخرجت للأمة فردًا صالحًا، وإنك -دون شك- لو قدّمت لابنتك ولمن تتعهد من الإناث تربية قويمة، لرفعت بهنّ سَويّة الأمّة كلّها، فقد قال ابن باديس -رحمه الله-: «إذا علّمتَ ولدًا فقد علّمتَ فردًا، وإذا علّمتَ بنتًا فقد علّمتَ أمة».

يجتمع الذكر والانثى في الاحتياجات الأساسية للإنسان، إلا أن تفاصيل الحاجة الواحدة تختلف بينهما بما جُبِل عليه كلّ منهما، وكلما ارتفعنا تصاعديًا في مستوى الحاجات التقت في نقاط وافترقت في أخرى، ومواطن التشابه والاختلاف لا تقتصر على الجنس دائمًا، وإنما قد تتأثر بأنماط الشخصية وطرائق التفكير للفرد الواحد مهما كان جنسه، وهذا ما ألمحت إليه في مقالي السابق بعنوان: "أسس مهمة في تربية البنات"، ومن خلال استعراضي لحاجات البنات وطرق التفاعل معها بشكل ناجح، سأتعرض لاستعراض شكل الحاجة عند الذكر، وكأن هذا الاستعراض يبسط أمامنا مدى المساحة التي فيها يلتقيان، وكم من الحيز يبتعد أحدهما وينأى عن الآخر.

الحاجات الأساسية للطعام والأمان:

وهذه حاجات إنسانية -كما أسلفنا- تكاد تتطابق البنات فيها والأولاد في مقدار الحاجة إليها، الطعام حاجة البدن، والطعام شهوة البطن، وهو زوادة المرء ليتقوّى على العيش، فإن أحسن المربي بَلوَرة مفهوم الطعام في ذهن الناشئة كانت العلاقة بالطعام متوازنة، وتشعبت منها مهارات حياتية كإتقان إعداد الطعام -وهذا يلزم كلا الجنسين-، ومهارة الاتزان بين الشره والعزوف عن أخذ الحاجة من الطعام. وفي عدم التوازن مؤشرات على أمراض نفسية لابد أن يراعيها المربي، وإنّ الأجدى أن يتقيَ المربي هذه الأحوال بصقل المفاهيم وبناء الوعي.

أما الأمن فهو الحاجة الأساسية التي تعني شعور الإنسان بالطمأنينة والسلامة من التهديدات الداخلية والخارجية، وهذا ما تشترك فيه الإناث مع الذكور، إلا أن حاجة البنات لذلك تزيد قليلاً؛ لأنها بالفطرة تستند إلى الرجل وتشعر بالأمان أكثر عندما تكون بمعيته، وهذا الشعور الفائض يتناغم مع أنوثتها، ولا ينقص من قدرها، فإذا استطاع القائم على تربيتها أن يحمي فطرتها من الشذوذ الفكري الذي استباح العالم في زماننا باسم العولمة وبأدوات عصرية حديثة، فعلى المربي أن يعلم كيف يلبي حاجة البنت إلى الأمان فيكون لها العون والمأوى عندما تعصف ريح القلاقل النفسية الناجمة عن الأحداث والمواقف، فيكون منها قريبًا، يرى حالها من مسافة أمان كافية ليجنبّها كل سوء يهدد مشاعرها ويتحكم في تصرفاتها مُلحقًا بها الضرر والأذى، وهو من باب أولى عليه أن يقيَها كلَّ سوء، بأن يجعل منها شخصية قوية بالعلم والفكر.

وأشكال الفشل الذريع في هذا الجانب أن يخنق المربي البنت فيحرمها من الحياة بسبب الخوف عليها من مخاطر الحياة، ومن أشكال الفشل أن يطلق لها العنان لتنطلق في الدنيا بحجة أنّها ستصبح قوية وأن هذا ضرب من الاعتماد على الذات، على المربي المتزن أن يتجنب هذين الشكلين، عليه أن يسدد ويقارب؛ فلا يحبس ابنته في فقاعة هواء ما أن تتعرض لأبسط محك حتى تنفجر الهالة الوهمية وتسقط البنت في شراك أول اختبار، ولا يبسط لها الدنيا دون ستر منه أو عون؛ فالبنات مفطورات على حبّ الأب والمربي؛ لأنه يسد هذه الحاجة الجميلة والتي تهواها البنت وتُسعد بها.

من هنا تظهر حاجتها لأمور كثيرة أجدها متعلقة بحاجة البنت إلى الأمن والأمان، وهي وسائل ليس إلا لإشباع تلك الحاجة في البُنيّات:  

أولاً: الاحترام ومنح الاهتمام والتقدير للبنت حتى تشعر بالقبول:

فهذا مطلبٌ نفسيٌّ وحاجة ملحة؛ إذ الفتاة بطبيعتها الإنسانية تكره أن تكون مبغوضة من محيطها، وبالذات من والديها وعائلتها، كما ترغب بأن تعامل على أنها ناضجة حكيمة، فعلى الوالدين والمربين أن يعطوها النظرة والانتباه أثناء حديثها وتعبيرها، ويثنوا على ما أعجبهم من كلامها ومواقفها، وإذا ما أرادوا التعليق والإضافة، قدّموه باحترام وكأنهم يخاطبون أميرة قومها.

فاحذر أن تعامل ابنتك أو أية فتاة معاملة الأطفال، فأنت بذلك تشعرها بالقصور والدونية والامتهان، وهذا يتنافى مع الكرامة التي أودعها الله في نفس كل إنسان، واحذر من إقامة الحواجز النفسية بينك وبين ابنتك؛ لأنها ستكون سدًا منيعًا في وجه التربية، وعندها لن تقبل البنت إرشادًا ولا نصحًا ولا توجيهًا، وأعجب كل العجب ممن يريد أن يصنع سيّدات الأمة فيحقّر منها أثناء التنشئة لتكبر على الهوان والذل، وإنه كما قال المتنبي:

من يهُن يسهل الهوان عليه *** ما لجرح بميّت إيلام

ثانيًا: حاجتها للحديث والاستماع إليها والتعامل مع مشاكلها بحب واحترام:

وهذا يتطلب وعيًا من المربي للتفاهم مع أكبر المزالق وكيف يبسطها ويهوّنها، وكيف يعلم الفتاة على حسن التخلص منها، وقبل ذلك كيف يجهّزها لاتّقاء هذه المواقف وتجنبها، وكيف يدربها من خلال المحكات على حل المشكلات، دون تضخيم للمشكلة وتهويل، كيلا يورث الفتاة مشاعر العجز والانكسار والانهزام، وحتى يكون الحديث معها فعالاً فلابد أن يكون مألوفًا مستمرًا في كل الأحايين.

قد يظن البعض أن الحديث مع الأبناء يلزمه تخصيص وقت طويل، وهذا ظن يجانب الصحة والصواب؛ فالحديث مع الأبناء بشكل عام ومع البنات بشكل خاص يتنوع من حيث الوقت والموضوع والنكهة والحاجة، ومن حيث الأدوات، فقد تتحدّث مع ابنتك على الهاتف لدقائق تطمئن على أمورها في لحظاتها تلك، وتعطيها من التشجيع والتحفيز، أو من التوجيه والإرشاد اللطيف، أو تواسيها وترفع من معنوياتها، أو قد تدعمها وتشعرها بوقوفك معها، ولهذا الفن أدواته وأسراره للنجاح؛ لذا كان من سوء الأداء أن  يحمّل المربي كل المسؤولية للفتاة في حال ارتكابها خطأً ما، صغُر أم كبُر؛ لأن من واجبه أن يكون قريبًا منها دومًا بالحديث والحوار ليمارس من خلالهما مهمّة الأنبياء في صناعة النفس البشرية السويّة، لذا لن ترى مربيًا حريصًا لا يتقن الحديث أو المناقشة الفاعلة مع ابنته، وإنّ صورة الأب والأم والمعلم الذي إذا تحدث رفع صوته غاضبًا وأكثر اللوم والتجريم، وكأنه موكل بالجلد والتحطيم، هي صورة مَن لا يدرك مفهوم التربية على الإطلاق.

التواصل الفعلي يسد حاجة البنت من التربية والاهتمام، اللذين يحققان -دون شك- الأمن الداخلي ويضمنان الأمان الخارجي، من خلال تحسس أخبارها ومتابعة أمورها ومساعدتها في شؤون دراستها، ومشاركتها في الاهتمامات وممارسة الهوايات والأحلام والطموحات، فلا تقوم التربية الناجحة بغير هذا التواصل والمشاركة، وكل هذا طرائق فاعلة لسد احتياجات البنت، وتلافي شعورها بالاحتياج أصلاً.

إن أكثر من 80% من مشكلات الناشئة في العالم العربي، تأتي نتيجة تسيير الأهل والمربين لحياة أبنائهم وتلاميذهم بموجب آرائهم وعاداتهم، دون الحديث معهم وإقناعهم من خلال حوار يحترم الناشئة ويقدّر كينونتهم، وقد يحجم الأبناء عن الحوار مع أهلهم لأنهم يعتقدون أن الآباء لا يهتمون بمعرفة رأي أبنائهم أصلاً، أو أنهم لا يعرفون ما يمرّ به الأبناء والبنات من مشكلات من الأساس.

ويلزم فن الاتصال مع الابنة والتلميذة، التواصل على منهج المصارحة والمكاشفة؛ حيث يشعرها بصدق أنه مستودع أسرارها، ليعرف كيف تفكر وبم تحدّث نفسها؛ ليعالج ويقوّم أولاً بأول، بالإيحاء غير المباشر أو بضرب المثل والقدوة، أو بسرد قصة عن نفسه، خاصة من الأم، حتى تشعر الفتاة بأن حالتها طبيعة، فتزداد قربًا وحبًا من أمها ومربيتها، وهذا بحد ذاته سدّ لحاجة ملحّة عن البنات.

أيضًا تبادل الرأي والمشورة بينهما، فتقدّم الأم لابنتها الخبرات التي تعدّها أمًا للمستقبل، ويجب أن تتعرّف الأم على صديقات ابنتها وأسرهن، وتعطي للابنة قدرًا من حرية الاختيار، وإذا حدث خلاف تتناقش معها بودٍّ وتقنعها بأسلوب منطقي دون ضغط أو إجبار، وتشركها معها في الأعمال المنزلية والمجتمعية.

ثالثًا: حاجة البنت إلى صداقة طيبة:

وهذا يعني تأمين الصحبة الصالحة التي تبدأ من الأم والأخوات والعائلة، ثم تتوسع ليكون العالم الفسيح أمامها مشرعًا، وقد اتسع العالم في زماننا ليكون كله في بيت الفتاة وفي جهاز هاتفها، وهنا أتحدث عن العالم الافتراضي، وهذا ميدان رحب للحديث في تفاصيله، إلا أن الكلمة الفصل الآن هي أن نصنع البنت على عين الله بكل الوسائل الطيبة، حينها ستعرف البنت من تصاحب ولماذا.

ولابد أن ننوّه إلى أمر جلل وهو توجيه الفتاة من الصغر على حب الأنس بالله، فصحبته –سبحانه- ومعيّته هي الأمن الحقيقي، من وجد الله لم يفقد شيئًا، بل كسب كل شيء، من الضروري تعليم البنت تحصين نفسها بالأذكار، ولنغرس فيها معنى مناجاة الله وبث الهموم والحاجات بين يديه، وأنه قريب مجيب، وأنه ودود كريم، وأنه غافر الذنب وقابل التوب، وأنه يحب العبد اللحوح في طلب حاجته، وأنه –سبحانه- أقرب إلينا من حبل الوريد، يعلم حالنا ويسمع مقالنا.. بهذا نكون قد سددنا حاجة روحية ونفسية وازنة لها ما بعدها في تهيئة الفتاة لما فيه خيرها بعون الله.

رابعًا: حاجة الفتاة لخوض التجارب واتخاذ القرارات وتحمّل المسئولية:

ويكون ذلك من خلال مواكبة حياتها وتحفيزها على المحاولات وتهيئتها مسبقًا في الحوار وحث الخيال على التجارب الذهنية التي تنقلها إلى الواقع حال حدوثها، ثم كيف نجعلها تفتخر بما قررته حتى لو لم يكن من منظورنا هو القرار الأسلم، ولنتذكر أننا نصنع نفسًا، وأن ما اختارته وقررته هو مرحلة فقط وسنقوّمها لاحقًا بحب واحترام ولطف، فدورنا هو التوجيه والنصح بأسلوب نبوي متحضر دون إلزامها بما نراه من آراء.. وأكرر أن هذا السلوك من المربي يكون فيما عدا الثوابت والحقائق التي تُزرع في روحها بطرق خاصة منذ تأسيس بنائها الروحي والفكري.

خامسًا: تحقيق الذات:

من خلال تقدير ذاتها، ومراعاة طموحاتها التي صنعت على يد مربٍّ استلهم مواده من معين القرآن والسنة، وجمع في تربيته بين الأصالة في تكوين الهوية وتأسيس الشخصية المنتمية للغة والتاريخ والدين، وبين المعاصرة في استخدام أدوات الزمن المعاصر؛ لتكون البنت قوية في استثمار ذكاءاتها وطاقاتها لرفعة أمتها، وهذا يتطلب أن يكون المربي غير عادي، وإنما محسن متفنن مبدع، مستعد لأن تكون صنعته قد حققت غايتها في أحسن صورة ترضي الله، فهي الرقم الصعب، وهي المثال الطيب الراقي لبنات المسلمين وبنات العالم أجمع، وهذا مستند إلى الغاية من انشغاله في ميدان التربية، وقد ذكرنا ذلك في المقال السابق في الأسس المهمة في تربية البنات.

يبقى السؤال هو: هل نعرف حاجات بناتنا ونحترمها؟! هل نتقن التفاعل مع حاجاتهنّ لنصنع منهن ذهبًا حقيقيًا؟! وهل نحن عازمون بصدق على التشمير والاجتهاد في تربية جيل رباني يعيد للأمة خيريّتها؟!

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة