من العوامل الأساسية التي تؤدي لإهدار مواهب النابغين وعدم الإفادة منها هو عدم الوعي بمدى حساسية وهشاشة النابغين في فترة النمو خصيصًا، واختلافهم عن أقرانهم في العديد من الأمور..

تحتاج الأمة دومًا إلى النوابغ والأفذاذ الذين يمكنهم حل مشكلاتها وتحقيق آمالها وطموحاتها؛ بتوظيف ملكاتهم ومواهبهم في أماكنها الصحيحة. ولعل من أهم أمانات المربي أن يكتشف هؤلاء العباقرة منذ صغرهم ويرعاهم بشكل مدروس؛ لكي ينضجوا دون عيوب فادحة أو إهدار لما يمكنهم تحقيقه.

وقد عنيت الأمم شرقًا وغربًا بالتنقيب عن هؤلاء الأطفال النابغين ورعايتهم والعمل على تجنب أي عوائق تحول دون إطلاقهم العنان لقدراتهم، وكان هذا موضوعًا للعديد من الأبحاث العلمية الحديثة التي أنفق عليها الملايين، والتي آن الأوان أن نفيد نحن من نتائجها وتوظيفها لخدمة الأمة والنهوض بها.

إن من العوامل الأساسية التي تؤدي لإهدار مواهب النابغين وعدم الإفادة منها هو عدم الوعي بمدى حساسية وهشاشة النابغين في فترة النمو خصيصًا، واختلافهم عن أقرانهم في العديد من الأمور، وخصوصًا في فهمهم للواقع من حولهم؛ ما يسهل عليهم الانزلاق إلى اللامبالاة أو الإحباط أو التكاسل، فالنابغة بين أقرانه كالشمعة بجوار الجمرات، يتقد ويبرز ويضيء أكثر ولكنه أيضًا معرض للخمود السريع إذا أهمل في مهب الريح. وهذا التشبيه ليس أسلوبًا أدبيًا ولكنه معبر عن نتائج الأبحاث العلمية في دراسة النوابغ والمشكلات التي يتعرضون لها في خلال نموهم.

يهدف هذا المقال إلى طرح عدة معالم أساسية لعقلية النابغة الصغير، مع التنبيه على المشكلات الكامنة التي تنشأ عند التعامل بطريقة غير سليمة مع هذه الطاقة المتفجرة، فإما أن تحصل على ضعف العائد مقارنة بالطفل العادي، أو تكون خسارتك في الغالب ضعف الخسارة، والمشكلات أضخم بكثير مما يمكن احتماله. وإليكم هذه الملامح الأساسية من عقليته:

أولاً: سرعة الاستيعاب:

يمتاز النابغة بسرعة في فهم ما يطرح عليه، وهو يقدر على ربطه بغيره من المعلومات بشكل أسهل من الآخرين؛ ما يجعله يرى الصورة المتكاملة واضحة وبدون الحاجة لكثير من الشرح. قد يحتاج النابغة إلى المزيد من المساءلة أو النقاش وخصوصًا للحالات الخاصة التي تخالف المعتاد لما تشرحه، سواء أكان فقهًا أم لغة أم أي علم آخر.

مكمن المشكلة: هذه المزية في حق النابغة تنقلب إلى قيد وعائق أمامه، فهو مرتبط بمن حوله من الطلبة في سرعة الشرح والعرض، ومقيد بمحتوى الدرس عن التعمق في نقطة تثير اهتمامه أو فيها ما يجعله فضوليًا، وهو أيضًا مقيد بقدرة المربي على تقديم محتوى عميق وثري وإشباع نهمه للمعرفة.

ومع الأسف قلما تتيح الظروف للنابغة أن يقوم على تربيته شخص قادر على توفير المعلومات والأفكار والتحديات بمعدل مناسب لقدرته؛ ما يقلب هذه النعمة إلى مصدر للملل والخمول وعدم الاهتمام بالاجتهاد في طلب العلم.

الحلول المقترحة: على المربي المسؤول عن طفل نابغة أن يعلم أنه يتحمل مسؤولية ومهمة أصعب من المعتاد، وعليه أن يكون جاهزًا دومًا لتلقي أسئلة قد لا يعرف إجابتها، وألا يخجل من الاعتراف بعدم علمه، بل يكون قدوة للنابغة في الفضول الصحي والشغف للتعلم، وعليه أن يفكر كيف يمكنه توجيه النابغة ومساعدته لمزيد من التعمق، كما عليه أن يخصص جانبًا من إدارة الجلسة التربوية لتوفير ما يشغل النابغة في أوقات انتظاره لباقي أقرانه بدلاً من تركه للملل واختبار صبره مرة بعد مرة.

يمتاز النابغة بسرعة في فهم ما يطرح عليه، وهو يقدر على ربطه بغيره من المعلومات بشكل أسهل من الآخرين؛ ما يجعله يرى الصورة المتكاملة واضحة وبدون الحاجة لكثير من الشرح.

ثانيًا: التفوق اللغوي:

عادة ما يكون النابغة متفوقًا لغويًا، لديه حجة وبيان، ويمكنه التدليل على رأيه والدفاع عنه وطرح الحجج والتشبيهات والأمثلة التي تقنع بوجهة نظره، وغالبًا ما يمكنه أن يستخدم لغة أكثر صعوبة وتعقيدًا من أقرانه، كما أن لديه من الخيال ما يمكنه من النظر إلى المواقف المحتملة والافتراضية في أي موقف أو نتيجة لأي قرار، وكثيرًا ما يكون توقعه صحيحًا أيضًا؛ ما قد يدفع المعلم إلى وضع مزيد من الاهتمام لرأيه مرة بعد مرة.

مكمن المشكلة: هذه القوة اللغوية الفائقة قد تتحول أيضًا إلى عائق أمام المربي في تسيير الجلسة أو مسار تعليم النابغة، فهناك جدال في كل خطوة، وهناك حجج ومناقشات كثيرة لا تنتهي عند الخروج عن المسار الذي يريده النابغة، بل قد يجد المربي نفسه أحيانًا عاجزًا عن إيجاد رد مفحم لاعتراضات النابغة واقتراحاته؛ ما يجعله يلجأ للصياح أو الكبت للطفل لكيلا يتكلم، وكذلك هناك تلاعب بأفكار أقرانه عند مناقشتهم؛ ما قد يشعرهم بالارتباك أو التشتت أو الإحباط.

الحلول المقترحة: ينبغي على المربي أن يدرك أن هذا الفيض اللغوي يحتاج النابغة إلى مساق يوجهه فيه بشكل يشعره بالرضا وتحقيق الذات، فبدلاً من أن تكون متعته في الانتصار في الجدل يجد النابغة نفسه في حل الألغاز اللغوية، وتحليل الجمل ذات المعاني المختلفة أو الغامضة، ومناقشة الظواهر اللغوية المثيرة للاهتمام كالجناس والسجع وتتبعها. كذلك على المربي أن يمارس بعض الحزم في وضع الحدود حول ما يمكن مناقشته وما لا مجال للمناقشة فيه، ولكن مع اهتمامه بإقناع النابغة بالفائدة والهدف من هذه الحدود والقيود، فالنابغة بوعيه المتفوق يمكنه أن يقتنع بأسباب أكثر تعقيدًا من باقي أقرانه، ويستطيع رؤية الصورة الكبيرة والنتائج المتوقعة مسبقًا؛ ما ييسر على المعلم أن يوصل له أسباب تقييد حريته في الجدل والنقاش.

على المربي أن يدرك أن هذا الفيض اللغوي يحتاج النابغة إلى مساق يوجهه فيه بشكل يشعره بالرضا وتحقيق الذات.

ثالثًا: الكمالية:

يسعى النابغة دومًا للكمال في كل أعماله، ويحب أن يتقن ويثابر ويحسن، كما يتميز بالإبداع والخيال؛ ما يجعل أمامه الباب مفتوحًا للتحسين والتجويد في كل ما يقوم به من مهام أو واجبات. كما أنه مغرم بالاستغراق في مهمة تتحداه وتتطلب منها عملاً وتفكيرًا وانغماسًا يشبع ملكاته العقلية. كما يحب أن يكمل عمله ولا يترك شيئًا ناقصًا أو وجهًا للقصور.

مكمن المشكلة: يدرك النابغة أكثر من أقرانه أوجه القصور فيما يؤديه من مهام، كما يمكنه أحيانًا أن يرى خللاً في أمور يغفل عنها المربي نفسه، ولهذا فكثيرًا ما يكون من الصعب عليه الشعور بالرضا، وإذا أضفنا إلى ذلك خوفه الداخلي من تغير نظرة المربي والأقران له بسبب أخطائه -والتي تكون متضخمة عند النابغة- وخوفه من فقدان مكانته وسمعته بالتفوق، فإننا نجد النابغة يجلد نفسه ويتعب وراء تفاصيل غير مهمة ويصعب إشعاره بالرضا، بل قد يصل الأمر إلى أن يمتنع عن المحاولة من البداية بسبب إحساسه أنه لن يمكنه الوصول للكمال الذي يتوهمه، والذي كثيرًا ما يكون غير واقعي.

الحلول المقترحة: ربما كان هذا من أصعب ما يواجه الطفل النابغة، ولهذا وجب على المربي الحرص على عدم إذكاء الرغبة العارمة في الكمال عند النابغة، فيحرص المربي مثلاً على مدح (طريقة العمل) لا (ناتج العمل)، فيكون المدح والثناء على الجهد المبذول بغض النظر عن قصور النتيجة. كذلك يكون المربي قدوة في طريقة تعامله مع أخطائه هو، وتقبله لها بصدر رحب وتصحيحه لها ببساطة، كما يجب أن يقتصد المربي في مدح النابغة وذكر توقعات عالية لأدائه أمام الطفل؛ فهذا مما يضغطه للحفاظ على نظرة المعلم له، وأخيرًا يجب أن يحرص على تذكير الطفل بأنه من العادي أن نخطئ ولكن المهم أن نصحح أخطاءنا، ويسوق له أمثلة وقصصًا لقدوات في تصحيح الخطأ والتعامل معه كفرصة لإعمال العقل والإبداع والتفكير، ويمدح أمامه أفكار الأشخاص الذين صححوا أخطاءهم بطرق بارعة.

يسعى النابغة دومًا للكمال في كل أعماله، ويحب أن يتقن ويثابر ويحسن، كما يتميز بالإبداع والخيال؛ ما يجعل أمامه الباب مفتوحًا للتحسين والتجويد في كل ما يقوم به من مهام أو واجبات.

رابعًا: التميز عن الأقران:

من المعتاد للنابغة أن يشعر بالاختلاف والتميز عن أغلب أقرانه، فهو يفهم أسرع ويجيب أصح، وغالبًا ما تكون هواياته أو اهتماماته أعمق وأكثر تعقيدًا من مشاركتها معهم. وهذا الانفراد أو التميز نتيجة مباشرة لتفوق ملكاته العقلية، فبينما يميل أقرانه مثلاً للعب الكرة يوميًا قد يكون هو منشغلاً بتفكيك جهاز أو قراءة كتاب في علم العروض، ولو كان تفوقه جسمانيًا -وهو جانب من النبوغ يهمله كثير من المربين- فهو يميل لأنواع معقدة من الحركات البهلوانية التي لا يمكن أن يجاريه فيها أصحابه، إلى غير ذلك من المصارف التي يحتاجها ليستهلك كل هذه الطاقة داخله.

مكمن المشكلة: مع تكرر وكثرة الفروقات بين النابغة وأقرانه، يحاصره شعور بالاغتراب عنهم؛ ما قد يجعل من الصعب عليه تكوين صداقات أو الحفاظ عليها أو تعميقها. كذلك قد يؤدي به هذا الفارق للكسل والاتكال على قدراته وترك السعي لمزيد من التفوق والمران. تكرُّر هذه الخبرة في سن مبكرة يؤدي أحيانًا إما للغرور أو الاستهانة بالناس أو الوحدة والانطوائية وقلة التفاعل. ولعل من أكثر ما حجب النجاح عن الكثيرين من النوابغ عبر التاريخ هو ضعف قدرتهم الاجتماعية وافتقارهم لقواعد اللياقة واللباقة مع الناس، وعدم قدرتهم على إيصال أفكارهم لعمومهم، وهو أمر أكدت عليه الأبحاث العلمية الحديثة؛ حيث وجدوا أن الذكاء والعبقرية لا يكفيان لتحقيق النجاح المهني والعلمي وحتى الشخصي، بل يجب أن يقترن ذلك بالقدرات الاجتماعية الكافية للنابغة.

الحلول المقترحة: يجب الحرص دومًا مع النوابغ بالذات أن يكون لهم اتصال وتواصل مع نوابغ آخرين لهم ميول مشابهة، ومحاولة خلطهم بالمتفوقين وتشجيعهم على تكوين صداقات مع المميزين؛ ما سيجعله دائمًا يشعر أن هناك من هو مثله أو أفضل، وأن هناك مجالاً واسعًا للتطور والتقدم. كما يجب التركيز مع النابغة على مهارات التواصل الاجتماعي مع شرح أهميتها له وتدريبه عليها بشكل مباشر، ولا يعتمد معه على مجرد الاختلاط بالمجتمع، بل يجب توفير التدريب الملائم على هذه المهارات والتأكد أنه يمارسها بشكل صحيح.

يجب الحرص دومًا مع النوابغ بالذات أن يكون لهم اتصال وتواصل مع نوابغ آخرين لهم ميول مشابهة، ومحاولة خلطهم بالمتفوقين وتشجيعهم على تكوين صداقات مع المميزين

وأخيرًا..

فلضيق المقام عن الاستفاضة اضطررنا لذكر هذه الملامح فقط، وإلا فهناك صفات أخرى مهمة كالإبداع والقيادية وعلاقته بالقدوات وغيرها من صفات النوابغ التي يجب أن تهذب وتقوم وتوضع في سياق صحيح كيلا تطغى على حياة النابغة وتعيقه عن النجاح والانطلاق المبهر. ولعل هذه الملامح تهم المربي أكثر ما تهمه في كيفية تمييز النابغة؛ فأحيانًا حين تطغى المشكلات يتحول الطفل في عين المربي من نابغة إلى مشاغب، فيضيع جهده في تحجيم النابغة والسعي للسيطرة عليه بدلاً من إدراك مكمن المشكلة وإعادة توجيه الجهد في الاتجاه المثمر للإفادة من طاقات النابغة. وأنا أهيب بكل مربٍّ أن يعيد النظر فيمن يقوم على تربيتهم ويتفحص: هل فيهم من هذه المشكلات المذكورة؟! وهل فيهم من هذه الملامح الأساسية للنبوغ؟! وكيف يمكن الإفادة من طاقاتهم وتنميتها في ضوء هذه الحلول المقترحة؟! من يدري، لعل بين يديك نابغة وأنت غافل عنه منشغل بإسكاته في المجلس!

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة